على قيد الحبّ

شهناز شيخه - ألمانيا


الأمواج , الصّخور, طيور النورس, وسماء صافية تتوسطها شمس تبدو وكأنها تحدّق بكل لهيبها و نورها في هذه البقعة المنسيّة على قارعة أحجيات الموت والحياة.
بنظرات دامعة, واهية, تفتح عينيها دون أن تقوى على تحريك جسدها أو رأسها, تباغتها حزمة النّور, تحتلّ عُصيات النظر في عينيها, عيناها الشبيهتان بألق  البحر في صباحات هدوءه.
 هي؟ طفلتها التي كانت تحملها في حضنها؟  البشر الذين كانوا معها في القارب نفسه؟ شعرت برطوبة الصخور تحت جسدها المرمي المنهك  ,قليل من الدفء يتدفّق في جسدها, رويداً رويداً حركت يدها تتلمس معطفاً كان يغطي ساقيها, دبيب خطوات خفيفة تقترب منها, لم يعد للخوف معنى في ذاكرتها . لكن ثمة قلق و حيرة و أسئلة  تداهمها , مَنْ ذلك القادم ؟
-    لا تخافي ..  ها أنا أنجح في إنقاذك.

         قالها بابتسامة حانية و لغة متكسرة
آآآآه الأمواج .. القارب .. طفلتي - بدأت تجهش بالبكاء:
-    ... طفلتي  
-    شانا ؟حسناً اهدأي سنبحث عنها المهم أن تكوني بخير لأجلها؟
ازداد النحيب.. كانت دموعها تستجدي وجه طفلتها , بحرقة تجيل نظرها في الفراغ البعيد..
-    كنت طوال الوقت تلفظين اسمها!
قال بلغة متكسّرة ,هامساً, مطأطئاً
ذاك الشاب الثلاثيني الشديد الحزن, رغم ذلك ابتسم و هو يقول:
لقد شويت بعض السّمك, أرجوكِ حاولي أن تتماثلي للشفاء لنبحث عن ابنتك.
.................
كان الوقت فجراً.. قاربٌ قديم محمّلٌ بمئات الأشخاص الذين حزموا أعمارهم في حقائب صغيرة بعد أن احترقت بلدتهم بحرب تناثروا على إثرها هاربين في الطرقات يدقّون أبواب الحياة أملاً في إنقاذ اطفالهم.
الصيف في مفهومهم البسيط لا يدع مجالاً للخوف من هيجان البحر
كل شيء كان وديعاً وهادئاً, لكنّ القارب العتيق كان يضمر في خشبه المهترئ نبوءة الموت.
المهربون لا أخلاق لهم .
كانت هذه قاعدة يعرفها حتى البسطاء و السذّج  
المهرّبون صاروا أيضاً قَدَرَ  الهاربين من الحرب, الباحثين عن السلام .
المهربون لا يبالون بالأطفال و النساء,
ولا تتهدّج قلوبهم إن تسبّبوا في موت طفل أو كومة من البشر إمّا بسبب سوء التدبير أو لعدم صيانة قواربهم الهرمة . وإمّا للعدد الجنوني الذي يحشدونه في تلك القوارب التي غالباً ما تخذل من يلوذ بها .
في تلك الحرب التي اشتعلت في بلدي ولدت مصطلحات جديدة في وسائل الإعلام مثل قوارب الموت, بحر الموت, غابات الموت, وشاحانات الموت, كانت تلك حقائق بشعة قاتلة عاشها الكثيرون ممن فقدوا أبناءهم أو أحد أفراد عائلتهم.
المهربون مصطلح أيضاً لمعنى التوحش والانسلاخ عن الآدمية
.........................................
تكومت على جسدها, حطّت  بقربها الطيور  
البحر رمى قبعته خجلاً من كم ضحاياه, ذلك الذي أصبح دون ذنب خائناً, غادراً يقتل الأطفال ويبتلع النساء والطاعنين في السن ولا يسلم منه الفتيان ايضاً
-    طفلتي طارت من يدي عندما غمرت الماء القارب واهتاج البشر, رميت نفسي وراءها لم أكن اتقن السباحة , لكنني سرت وراء جسدها الصّغير و هي تناديني: ماما , تركت الاتجاه الذي حاول الجميع السباحة فيه وتتبعت خفقة الجسد الرقيق على الماء, بقي صوتها يناديني, بقي الصّوت لكن الجسد اختفى وخفت الصّوت, رويداً رويداً , لم يبق سوى همهمة الماء القاتل
وصوت قطعة الخشب كنت اتشبث بها  علّي أنقذٌها......
كان صوتها ممزوجاً ببكاء هستيري و حشرجة أشبه بالموت
تكوّمَ الشاب على نفسه و أجهش بالبكاء .
............................
المكان جزيرة يونانية بالغة في الصغر أو لنقل عدد قليل من صخور و أشجار, الزمان لازال صيفاً ..
في انتظار الصيادين أو حوامات الإنقاذ او خفر السواحل الذي قلّما  يأبهون بإنقاذ ضحايا تلك القوارب , الهاربون من الحرب أجساد رخيصة , و أرواح لا قيمة لها.
..............................
رغم عجزها عن التفكير في شيء او رؤية شيء غير وجه ابنتها, لكن بكاء الشّاب  باغتها بسؤالٍ خرج من فمها اليابس المزرقّ
-    من أنت ؟ لقد أنقذت حياتي و تمنيتُ ألا تفعل .
قالتها بكآبة .. بلغة متكسرة تمزق قلب الصخور
-    أنا ؟  
سأخبرك فيما بعد
الآن أحاول أن أجد وسيلة لندلهّم على مكاننا, سنموت إن بقينا هنا .

-    حاول أن تنقذ نفسك, أما أنا فدعني أموت هنا
-    هذا كلام غير مقبول, أرجوكِ ارتاحي فأنا لا أتحمّلُ حزنكِ
..........................
ظلّ الشاب يمشي بين تلك الصخور .. يتأمّل جوّاله بلا جدوى
لكنه أبداً لم يفقد إيمانه بأنه سيجد مخرجاً  
 كل صباح ...
يترقّب على خطّ الأفق ظلال المنقذين أو قوارب الصيادين أو خفر السواحل في الأفق لكنه لا يجد سوى شمس تنزل للبحر في المساء.. شمس تنزف على خط الأفق كفلقة برتقالة .
................
-    لا تخافي أبداً.. فقط المشكلة أن هذه الجزيرة من غير المتوقع أن يصل إليها ضحايا القوارب المتحطمة لأنها بعيدة قليلاً, لكنهم عادةً يفتشون معظم الجزر
-    أنا لست خائفة.. فقط أتمنى لك النجاة
هدرت الكلمة في أذن الشاب.. هو أيضاً بعد أن لمس جثث الغارقين في المياة الواجمة وعايش رائحة الموت و رآه  ساخراً في عيونٍ بقيت مفتوحة على صفحة الماء تستغيث وتستنجد .. هو الذي سمع صرخات الغارقين تهزُّ عروش الملائكة .. هو  أيضاً – لولاها – لما كان خائفاً ولما تمنى النجاة .
-    لاشكّ أن زوجك قلق عليكِ يجب أن تعيشي وتنجي لأجله
كانت فكرة ماكرة منه ليعرف شيئاً أخر عن هذه المرأة –القدَر- الذي  وجد نفسه يسير وراءه , لكنها ظلت صامتة وبقيت نظرتها شاردة هاربة من أي جواب .
حاول مرة أخرى أن يكسر الصمت
-    أنا لا يوجد لدي زوجة تقلق عليّ وأمي العجوز ماتت منذ سنتين بعد موت أبي.. لا إخوة لي .. لن يحزن علي أحد - مبتسماً منتظراً كلمة منها أي كلمة تروّض هدير الوقت النازف, تهدهد على مسمعه  أصوات الغارقين, أنفاسهم الضائعة في الماء  -
رفعت رأسها تمنت لو استطاعت أن تقول له إنها أمّه أو إنها على الأقل شخص يقلق عليه .. لكنها بقيت صامتة .
صورة طفلتها بقيت أمام عينيه لن ينسى أبداً ذلك الملاك الصغير الذي سافر للموت.. صرخة الأم والابنة تتعالى في ذاكرته تحتلّه هو الذي عارك الموج من أجل إنقاذ الطفلة لكنه فشل, أتراه  تناثر  ذلك الجسد الصغير متمزّقاً بين أنياب البحر ليعود  كما تقول الإسطورة مثل كاوس الربّة الإغريقية أم الكون متمثّلاً في عناصر الحياة الأربعة , لكن كاوس عادت وهدأت في جسد إله, أما الغارقون في البحر يا لتعاستهم إنّهم مسافرون في طريق لن يعودا منه أبداً     .
..........................
هي تذكّرت زوجها الذي تركها مع طفلتها الرّضيعة في بداية الحرب آخذاً معه ابنهما البكر هارباً إلى البلاد التي فتحت أبوابها لللّاجئين .
-    سأرسل في طلبك  قريباً , قريباً جداً.
كان صوته يهز شجنها أكثر وهي تتذكر كيف غاب و تزوّج هناك من إحدى فتيات تلك البلاد النّاعمات , كان لابدّ له فوق ذلك من الحصول على ورقة /غير متزوج / ليتمّ إجراءات زواجه السعيد هناك .. ترك الوطن وابنته و هي التي ظلت كعادة الكرديّات تحوك له كنزته الصوفية و شالاً سميكاً طوال ليالي الشتاء – البلاد التي سافر لها أبوكِ باردة يا حبيبتي سأرسلها له مع أول مسافر _
وحده ابنها بقي, يحدّثها في الشهور الأولى من سفرهما , يبكي على الهاتف وهو يقول:
- اشتقتك امي  , اشتقت الطعام من يدك, اشتقت صوتك الذي كان يوقظني كل صباح , اشتقت ملمس أصابعك على شعري.
كان يقول كل ذلك و يجهش و هي مطلوبُ منها أن تتظاهر بالقوّة فتردّ عليه بقلبٍ متهاوٍ
-    يا نور عيني , الرّجال لا يبكون.
لكنْ ..
الشهور الأولى مضت وصار ابنها في المرّات النادرة التي يهاتفها فيها يسلّم عليها بالألمانية التي كانت تتسلل لمعظم جمله التالية..
....................
رغم كل أحزاننا مضطرون للحياة, محكومون بها
..................
يجلسان بصمت  يتناولان ما يستطيعان به الاستمرار في الحياة ,كان يتأمل الشمس على وجهها الرقيق الغابر في الحزن , الشّمس التي تركت على ذلك الوجه بصماتها اللّاهبة دون رحمة , يتأمل الطّاووس بذيله البهيّ الملوّن الذي تعلّقه كقلادة في عنقها ..بخجل لمست بأصابعها قلادتها الملوّنة , وهي تهرب من نظراته المباغتة  
-    إنّه طائرٌ مبارك عندنا
فرح لأنها كسرت صمتها كما يكّسِر البحر موجاته على الصخور
كانت هي الوجه الوحيد الذي بقي  للحياة عنده ..
-    هل تعرفين قصة هيرا؟
هيرا إلهة جميلة اتخذت من الطاووس طائرها المحبب و رمزاً لها وتحمله معها دائماً
وكان هناك وحش يسير خلفها دائماً .. كان لذلك الوحش مئة عين
-    مئة عين !؟
-    نعم مئة عين , كان صاحب المائة عين يسير خلف الإلهة هيرا يتتبع خطواتها , هناك من يقول أنه كان عاشقاً لها و أخرون يقولون إنه كان مكلّفاً من إله الحرب بالقضاء عليها, لكن ما هو مؤكّد هو أنه حين قُتِل تناثرت عيونه المائة على ريش ذيل الطاووس فأصبح بهذا البهاء الذي نشاهده اليوم
و ...

لكنّه حين رآها تغفو مع كلماته , علت وجهه ابتسامة حانية مغلّفة بالصمت
مع كلماته تغفو , هي التي لم يجد النّوم طريقه إليها منذ أيام , كان كأنه يشهد غروب الشمس على الخط الأخير الفاصل للرؤية بين البحر والسماء ..
كأمّ , غطاها بذلك المعطف الذي رغم اهترائه كان يُشعره بالأمان ربما يكون لشخص ما حلّ هنا و نسي هذا المعطف كما أنه يفي بغرض تقديم التدفئة لملاكه النائم
................
في الصباح قرّر أن يحدّثها عن نفسه ....
-    هل تذكرين سالتني من أنا
-    نعم
لكن صوت الحوّامة في سماء الجزيرة أوقف الكلام , غارفاً ما يشبه الفرح في العيون و القلوب
 
-    نحن هنااااا
-    نحن على قيد الـ ...
في الحوامة وجدتْ الكلّ يحتفون بذلك الشّخص الذي لا تعرف حتى اسمه
و رغم هدير الحوّامة , فقدعرفتْ أنه كان مديراً لوكالة فرنسية هو  الذي كبر قرب نهر لوار ,  حيث كروم العنب وقصور وقلاع نانت ,شدّته الحرب في بلدها ..
و كانت رقبته ستبتر أكثر من مرّة بسيوف مختطفي الصحفيين أولئك الذين يرتدون اللحى والظلام .. في الحوّامة عرفت أنه كان معها بنفس القارب وأن آخر اتصال له بزملائه حين أرسل لهم موقع القارب واحتمالات وجهة البشر بعد تحطّم القارب  ..
كتلاطم الموج بالصخور أو مثل ريح هادرة تتالت كلماته و تعالت لتفوق صوت هدير الحوّامة ,كأنها تخشى أن يصلوا قبل أن يكمل لها حديثه, متشبّثاً بيدها, سعيداً بأصابعها التي تغفو دون انتباهٍ منها بين يديه كطائر نورس .
اتصل به زملاءه بلهفة وحبّ.. أنت الآن على الهواء مباشرة يريد النّاس أن يسمعوا صوتك

-    حسناً.. عبر البثّ المباشر هناك تحت أسقف المنازل رايت الموت, في الشّوارع الواجمة ,  بين ألغاز البحر, تعرّفتُ عليه , كان يبكي ,جسدي مثخنُ به, مع ذلك
 أنا ... على قيد الحب !

تعليق عبر الفيس بوك