أنسنة التعليم.. واسترداد الإنسانية المسلوبة

د. سيف المعمري

 

نحن شعب يتطلع إلى المستقبل بآمال عريضة، وأفضل مكان نصنع فيه مستقبلنا هو مؤسسات التعليم، التي يؤمها يوميا أكثر من نصف عدد سكاننا، ونوعية التعليم الذي يتلقونه داخلها هو الذي سيحدد إلى أين نتجه؟ وما الذي سنحققه؟ وما الصعوبات والتحديات التي سوف نواجهها، أعلم أنّ هناك صراعا حول غايات التعليم منذ ما يزيد على عقدين ونصف، حيث لا تزال مقولة التعليم لسوق العمل تلقى مناصرين لها من مختلف قيادات مؤسسات التعليم، بل إنها تتوسع وتنتشر وتسيطر على برامج مؤسسات التعليم ومناهجه، ولم يبق من تلك البرامج كبيرة إلا مساحة ضيقة للإنسان لكي يعرف نفسه حتى لا يضيعها على حد تعبير الشاعر محمود درويش، ولكي يعرف في أي جذور تتحرك دمائه، ومن أين عيون تنبثق ثقافته، وما الذي يجمعه مع الآخرين من حوله، أليست هذه غاية تستحق أن تحركنا إلى السعي إلى أنسنة التعليم الذي تحركه المعادلات، والمركبات، والقوالب الجاهزة، والأساليب المقننة التي لا تمنح الإنسان الطالب أن يعرف حدود إنسانيته، وتأثيرها في صناعة واقعه، وما اختفاء الفلسفة، وتقلص حصص المواد الاجتماعية، وغيرها إلا مؤشرات على تضاءل المساحات الإنسانية في مؤسسات التعليم.

إنّ خطورة تضاءل الروح الإنسانية في ما يعلم للطلبة، لا يمكن تجاهلها خاصة في الزمن الحالي الذي تزايدت فيه الإنكسارات، والأزمات، وانبثقت منه العصبيات والطائفيات، وأصبح الإنسان لا يعرف من إنسانيته إلا الرغبات المادية والبيولوجية التي يجب أن يلبيها بأي وسيلة كانت، مما زاد من المنافسة والصراع الإنساني، ومعهما ضعفت القيم الأخلاقية، وأصبحت المجتمعات تشعر أنّها غير قادرة على حل إشكالياتها وغير قادرة على استنهاض رأسمالها البشري كما تفعل المجتمعات الأخرى، مع أنها تعلم وتنفق على التعليم، وتعد جيوشها التي تنطلق كل صباح إلى المدارس والجامعات إلى معركة تبدو كما تظهرها المؤشرات خاسرة مقارنة بمعارك تخوضها جيوش تربوية أخرى في مناطق مختلفة من العالم، ربما انتصرت لأنّها بنت تعليمها على قاعدة إنسانية، وركزت على كل الأنشطة والمواد الإنسانية لأنها تعد الوسيلة الأهم في إصلاح المجتمع من خلال مساعدته على التخلص من الشرور والآثام والانحرافات والجهالة، وبعبارة أخرى تسعى أنسنة التعليم إلى علاج الأمراض الاجتماعية وما أكثرها ولكن كيف يمكن علاجها وهي إما تستثنى من المنهج أو أنها تقدم بصورة مختلفة عن الواقع، لا تتيح للطلبة تشريحها من أجل بناء مواقف لمواجهتها، والدفاع عن قيم المسؤولية والمواطنة والاجتماع الإنساني، وفاعلية الإنسان في بناء نموذج حضاري يشابه النماذج التي وصلتها إليها الإنسانية حيث السيادة لقيم القانون، والمؤسسية، والانضباط والابتكار والإبداع، والتعاون، وانطلاق الفرد الفاعل مدنيا،  وامتلاك الإنسان لأدوات التعبير، هل يمكننا أن نعد الإنسان الذي يقود إلى بناء هذا المجتمع العظيم، بدلا من أن نقود إلى بناء إفراد يكرس حالة الضعف والانكسار والاغتراب عن المجتمع؟

تلح علينا هذه الأسئلة في وقت تزاد سيطرة غايات السوق على التعليم، و رغم أنّ الإنسان يواجه واقعا يزداد تأزما، فالإهمال طال كل القطاعات التعليم والإدارة والمسؤولية، وحين اتسعت دوائر الإهمال اتسعت معها الثقوب التي نفذ عبرها أمراض عطلت الغايات والآمال التنموية الكبيرة، وهو ما لا يمكن أن تقوى دول على تفاقمه إن لم نعيد النظر في أنسنة الإنسان وأنسنة تعليمه لكي يكون فاعلا، عالما برسالته الحقيقة في هذه الحياة، وهي أنه خلق لكي يكون مفكرا متدبرا مبصرا لما حوله، وناجزا لما عليه من مهام التغيير إما باليد أو باللسان أو بالقلب، تلك الغايات لابد أن نعززها داخل من نقوم بتربيتهم.

علينا أن نتفكر بعمق في هذا المسير، وإن نقوم ببعض المراجعات، متجردين من مشاعر القدسية، ومن أوهام الرشد التي تمنعنا من أن ننظر في المالات التي يقود إليها تعليم لا ينطلق من حاجات الإنسان والمجتمع، وعلى المؤسسات المعنية أن تتحمل جزء من المسؤولية وأن تدقق فيما تزرع لكي نحظى بتعليم يحافظ لنا على هذا الإنسان الذي هو أثمن ما نملك، نعلمه إنسانيته لكي يحافظ على إنسانية الآخر، نكرس فيها الشعور بالكرامة، لكي يحافظ على كرامة الآخر، نعلم كيف يدافع عن حقه لكي يحافظ على حقوق الآخرين، إننا بحاجة إلى صناعة ثقافة تعليمية مضادة للثقافة الحالية، ثقافة تستطيع أن من خلال أن نربي الإنسان من إنسان لغيره إلى إنسان لنفسه ولغيره، نربيه على الحرية وليس الخوف منها، وعلى المسؤولية وليس الهروب منها، علينا أن نزرع الثقة في طلبتنا  لكي يكونوا عظاما، ولا يمكن أن تتحرك هذه الثقافة المضادة إلا حين يكون النقد أحد أدواتها لأن ذلك يساعد على الفهم الحقيقي، ويساعد على تحقيق الانطلاقة، إن لم نقف ونفكر في الممارسات الحالية، سيظل الإنسان مسلوبا من نفسه ومسلوبا من الآخرين، والمجتمعات التي يسلب منها الإنسان سلب منها كل شيء.