الإسكندر في قبضة الملكة السودانية

 

محمد علي العوض

يقول الراوي في النسخة الحبشية لكتاب "سيرة الإسكندر ذي القرنين ومغازيه" أنّه لما استولى الإسكندر على مصر بعث رسالة إلى الـ "كنداكة" – لقب ملكات السودان إبّان الحضارة الكوشية - يقول فيها "لقد علمنا إنكم حكمتم مصر قبل مجيئنا إليها" وإنكم لما خرجتم منها استوليتم على كنوز الذهب وغيره من المعادن النفيسة التي توجد في أقصى جنوب مصر وبما أن مصر صارت الآن من أملاكنا فإنّي أطالبكم بإعادة كل ما استوليتم عليه من تلك الكنوز.

فبعثت إليه الكنداكة وفدا برسالة تقول فيها: (إنّ كنوز الذهب والزبرجد وسائر المعادن النفيسة ليست في أقصى جنوب مصر كما حسبت بل في أقصى شمال السودان، وهي أملاك سودانية لا يسعني التنازل عنها وتسليمها).

وكان بين الوفد رسّام، أوصته الملكة أن يرسم لها الإسكندر في سريّة تامة وألا يطلع عليها أحد.

وصل سفراء الكنداكة بلاط الإسكندر وسلموه ردها وهديتها، فرد الهدية غاضبا، وكتب رسالة يقول فيها: أنا الإسكندر الأكبر ذو القرنين ملك الدنيا من مشرقها إلى مغربها فاتح بلاد فارس، وقاتل ملكها العظيم (دارا) وفاتح بلاد الهند، وقاتل ملكها المحنك القوي (فور) واعلمي أنّه لا يحول بيني وبين ما أريد أحدٌ من الخلق مهما كانت قوته، ولا تقوم بحربي امرأة مثلك أو تمتنع على بلاد كبلادك؛ فأذنوا إن لم تسلموا إليّ تلك الكنوز بحرب لا تجنون منها إلا الذلة والصغار.

بعد عودة سفراء الكنداكة وبمعيتهم سفراء الإسكندر حاملي رسالته التهديدية، سلّم الرسام مليكته صورة الإسكندر فدستها الملكة في خزانتها الخاصة، ثم اطلعت على رد الإسكندر، ولمّا رأته لا يريد إلا الحرب كتبت إليه تقول: (لسنا كما تظن، نحن أعظم من (دارا) على ما وصفت من عظمته وأكبر قوة وحنكة من (فور) ملك الهند على ما رأيت من قوته وحنكه ولا تحسب أنّي حين بعثت إليك بتلك الهدية كنت خائفة من سطوتك أو طامعة فيما عندك، لكني رأيت أنّ الرفق أوفق الحالين، وأنّ السلم أحسن عاقبة، فإن أبيت إلا الحرب فهلمّ إلينا فإنّك لن تجد منا إلا بأسا شديدا ولن تجني من حربنا إلا الخسارة.

رابطت الكنداكة جيوشها على التخوم الشمالية للسودان تأهبا لملاقاة الإسكندر؛ واتفق في تلك الأثناء أن خرج ابنها الأصغر وزوجته في رحلة صيد فداهمته جماعة من قطاع الطرق أخذت ما عنده وأسرت من معه، ثم جلبته ليباع في أسواق الرقيق بمصر.

في السوق تعرّف جند الإسكندر على الأمير السوداني فأخذوه وجاءوا به إلى قصر الملك الذي علم بخبر الأمير بعد أن استجوبه معاونه القائد بطليموس، وأخذ الإسكندر يفكر في كيفية استفادته من الأمير في مواجهة أمه.

دعا الإسكندر بطليموس وأمره أن يجلس على العرش مكانه وأن يتقمص شخصية الملك، ثم وقف مع سائر القادة كأنّه واحد منهم قبل أن يأمر بإدخال الأمير الأسير.

دخل الأمير فهاله أن يرى القائد الذي استجوبه بالأمس جالسا على العرش فخرّ راكعا بالتحية، ثم رفع رأسه مخاطبا بطليموس: "أعذرني مولاي فقد ظننت أمس أنك بطليموس القائد، ولو كنت أعلم أنك الإسكندر لضاعفت من إكبارك وقابلتك بما يليق من التحية والتجلة.

فقال بطليموس مخاطبا الأمير الصغير: لا عليك... نحن معشر الملوك على اختلاف بلادنا وأحوالنا ينبغي أن نتعامل في رعاية المكانة والحق والحصانة كما لو كنا أسرة واحدة؛ وإن كنا على حافة الحرب، لذا سأعيدك إلى وطنك سالماً مكرماً، ولا ينبغي لمن هو في مثل مقامي أن يرى أميرا مثلك مسلوباً من قبل اللصوص والمارقين مهما كانت الحال فرأيت ألا أعيدك إلى ديارك إلا بعد أن آخذ لك حقك من قطاع الطريق وأرد إليك زوجتك وسائر ما أخذوه منك.

ثم التفت بطليموس إلى الواقفين حوله وقال: أريد أن انتدب أحدكم للاضطلاع بمهمة رد هذا الأمير إلى بلده في سلام بعد أن يأخذ له كامل حقه من قطاع الطريق، فمن لها؟

صاح الإسكندر المتنكر في زي بطليموس القائد: "أنا لها يا مولاي، سآخذ ألف فارس إن أذنت لي، استرد بها للأمير حقه وأعيده إلى أرضه سالما.

فقال بطليموس: (لك ذلك أيّها الفارس فاختر جنودك بنفسك) انتخب الإسكندر ألف فارس إغريقي وعزم أمره على أن يدخل مدينة الملكة السودانية مع ابنها ثم يستولى عليها من الداخل، فسار في ملاحقة الخوارج الذين فروا أمامه، ثم توجه بعد ذلك إلى معسكر الكنداكة.

سبقت البشارة وصول موكب الأمير؛ فخرجت الملكة وحاشيتها لاستقباله وتهنئته بالسلامة؛ ولم تنس أن تقدم شكرها لذي القرنين ووعدته بمكافأة مجزية، وأمرت بإنزال الإسكندر وجنوده منازل الضيافة، وأن يُبالَغ في إكرامهم.

في صبيحة اليوم التالي أمرت بأن يدخل عليها الإسكندر، وحين مثل بين يديها هاله ما رأى؛ فقد كانت الكنداكة ترتدي أفخر ثيابها، وتضع على رأسها تاجا مرصعا بالذهب والماس والأمراء حافون حول عرشها في مشهد مهيب ذكّره بأمّه الملكة "هيلين" فانخرط الإسكندر في نوبة بكاء حار كاد بها يفضح نفسه لولا أن انتبه على صوت الكنداكة وهي تسأله (ما بك أيّها القائد.. ما يبكيك؟).

فقال: هي دموع الفرحة يا مولاتي، وإنها لسعادة ما بعدها سعادة أن أقف هنا لتكرّمني من هي في مثل جلالك وامتع طرفي بالنظر إلى وجهك الكريم، واطلع من حسن طلعتك وهيبة وقارك ما لو رآه ذو القرنين نفسه لاغتبط به أشد الغبطة.

سُرّت الملكة بجوابه ثم أمرت بتركهما وحدهما وإغلاق أبواب القاعة؛ ولما اطمأنت بألا أحد يراهما أو يسمعهما بادرته قائلة: (يا ذا القرنين !!أنا كنداكة).

فقال: (مولاتي، لست ذا القرنين إنما أنا عبد من عبيده وقائد من جملة قادته) فأخذت الكنداكة تضحك ملء شدقيها، فقال (هلا تطلعني مولاتي على سر ضحكتها؟) فأجابته: (يا ذا القرنين هل تظن أنك خدعتني؟) وأخرجت له الصورة التي أمرت برسمها وقالت: (لقد عرفتك متنكرًا منذ الوهلة الأولى).. لم يدر ذو القرنين ما ذا يقول وأحس بمرارة الإخفاق حين علم أنّه استدرج بحيلته، فتابعت الكنداكة: "ما رأيك الآن أنت الإسكندر الأكبر ذو القرنين مالك الدنيا من مشرقها إلى مغربها فاتح بلاد فارس، وقاتل ملكها العظيم (دارا) وفاتح بلاد الهند، وقاتل ملكها المحنك القوي (فور) قد صرت في قبضتي أنا، قبضة امرأة! وأعجب ما في الأمر أنك سعيت إلى أسرك بقدميك وأُخذت بذكائك، لقد كنت أتابع تدابيرك وأدرس مكيدتك في كل حرب خضتها فرأيتك تركن إلى لطف الحيلة، وإحكام المكيدة في كسب النصر وكسب الظفر بعدوك بالدهاء قبل المخاطرة. ولكم تمنيت متعة نزالك في ميادين التخطيط وسياسة الحرب، أنا التي زينت لولدي الخروج إلى الصيد، وأنا التي أوعزت إلى رجال البوادي ليأخذوه على غرة ويجلبوه إلى مصر تحسبا لمثل هذا الموقف؛ ومن قبل بعثت مصورًا يرسمك".

أخذ الإسكندر يضرب جبهته بقبضته ويعض على شفته في غيظ شديد. فقالت له: ما كل هذا الغيظ والأسف؟ فقال: "إنّما الآن آسف على شيء واحد". فقالت: "ما هو؟" قال: "إنّ سيفي ليس معي الساعة"، فقالت: ما كنت تصنع به؟ فقال: أقتلك به أولاً ثم اقتل نفسي. قالت: وماذا تفيد من إزهاق نفسي ونفسك؟ بمقدوري الآن أن أصفق بيدي فيدخل رجالي وفي أيديهم السيوف القواطع لتكون في عداد الموتى؛ لكن لن أفعل هذا فلقد أحسنت إلي إذ رددت إليّ ولدي سالماً. سأرسلك حراً لتعود إلى مملكتك، ولن أفشي سرك لأحد وسأعطيك الحرية والأمان بشرط واحد.

فقال الإسكندر: ما هو؟

قالت: أن تكتب بيننا عهداً تقر فيه بسيادتنا على كامل أرض المعدن.

قال: لقد قبلت.