كم دولارا تدفع لشراء مبادئي؟!

 

مدرين المكتومية

يتجرع العالم اليوم مرارة أزمات عدة، تتالت واحدة تلو الأخرى، مشاهد قاسية من هنا وهناك تتداعى أمامنا عبر شاشات التلفاز ووكالات الأنباء، تدفق هائل للأخبار عن قتل وتقطيع جثث وصفقات مشبوهة، ومبيعات سلاح مليارية لقتل الأبرياء والعزل، ونميمة سياسية تهدد رؤوس الدول.. معارك حامية الوطيس ربما لم يشهدها العالم من قبل بهذه الفظاعة والضخامة.

وفي خضم ما يحدث، يسعى المرء منا- ولاسيما نحن الصحفيين المعنيين بالوصول إلى الحقائق- لمحاولة فهم ما يجري، وطبيعة المساومات التي قد تتشكل خلف الكواليس، والمقابل الذي يمكن دفعه من أجل إسكات شخص أو تهديده، وأيضا المقابل الذي يمكن أن يدفعه أحدهم من أجل الحصول على الدعم والتأييد الدولي.. كلها أحداث وخفايا لو أزيح عنها الستار لتكشفت أهوال يشيب لها الولدان.

إنها معضلة الصراع بين الأخلاق وعبادة المال.. نعم عبادة المال المقيتة التي تدهس المبادئ الإنسانية السامية وتقمعها، من أجل حفنة من الدولارات الملوثة بالدماء والمتعفنة في أقبية المنظمات وجماعات المصالح المشبوهة. إن العالم في ظل عبادة المال يمر بمنعطف خطير وصعب للغاية، يضع الناس أجمعين على قارعة الطريق ليختاروا بين تيار إنساني يعلي من المبادئ والقيم، مبادئ الإنسانية والمساواة والأخلاق السمحة والعدالة والجمال والخير، وبين تيار مضاد عنيف جدًا وشرس لا يعرف الرحمة، تيار يُؤمن بالمال وعبادته لهدم منظومة الأخلاق. إنها تياران متضادان في صراع نراه في مختلف الظواهر السياسية والاقتصادية والقرارات التي تغير الكثير من الاتجاهات في السياسات العالمية. فمثلا ومن المؤسف أن يظهر تيار مثل "تيار ترامب" الذي يُؤمن بعبادة المال أولا، فتصل به الدرجة أن يقول: "لا يُمكن أن نضحي بـ110 مليارات صفقات سنويا على حساب المبادئ الأخلاقية". الرجل يضع الأخلاق في كفة، ومبيعات السلاح والتدمير في كفة أخرى، فترجح لديه كفة التدمير على كفة البناء.

يا له من توجه خطير للغاية، توجه يمثل وحشية الرأسمالية في عنفوانها المؤلم، مضحيةً بالإنسانية والأخلاق من أجل المال.. إننا نقول: المال ليس كل شيء في الحياة، ما يجعل الحياة جميلة وجديرة بأن تُعاش هو أن لدينا مبادئ احترام الإنسان، واحترام قيمه وحقوقه فوق كل اعتبار، وكل إنسان له حق العيش بكرامة حسب ما جاء في المواثيق الدولية والدساتير التي تأسست على مدى القرون لتضمن للإنسان حياة كريمة في هذا الكوكب. لذلك فإن جميع التحديات والمشكلات التي ورثناها ونواجهها تأتي نتيجة لتراجع تيار الأخلاق والمبادئ لصالح تيار المال.

ها نحنُ اليوم أمام قضية شغلت العالم وشغلت جميع سكان الأرض، جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاسقجي البشعة، بل البشعة للغاية، أنتجت الكثير من القصص والروايات حتى بتنا لا نعلم أي القصص هي الحقيقة وأيها الخادعة، وفي كلا الحالتين هي جريمة مؤلمة لم نجد فيها مراعاة للإنسانية حتى الآن، فهناك من وقف مع الأخلاق وفضح المجرمين، وهناك من ودّع وتغاضى وتراجع عن المبادئ لحساب المال.. لذا سيظل هذا الصراع مستمرا حتى تنتصر قيم الأخلاق والمحبة ويسود السلام في العالم، متى؟ لا نعلم، لكننا لن نفقد الأمل في تلك اللحظة التي نراها قريبا ويرونها بعيدا.

لم اعتد أن أكتب بنبرة سلبية أو أن أرى العالم بنظارة سوداء، لكني هنا ودتتُ أن أسلط الضوء على جانب مظلم في عالمنا، فليس كل ما حولنا جميل، ولذا علينا أن نصنع الجمال من حولنا، لأنفسنا وللأخرين، أن نمنح الحب لمن يمنحونا الاهتمام والرعاية، وأن نشارك من نحب أعظم المشاعر والقيم، قيمة الجمال، قيمة النقاء، قيمة الشفافية، كل قيمة تجعلنا نتنفس الصعداء ونقول "الحمدلله على نعمة الحياة"، يجب أن نرفض بأعلى صوت القيم المادية المتوحشة التي تنهش في جسد الإنسانية، علينا ألا نترك الساحة لعبيد المال والزاحفون خلف الأهواء.. أقولها كما لم أقلها من قبل: إن الحب والجمال والخير، ثلاثية لا غنى عنها لمن أراد أن يحيا بقلب سليم.