د. عبدالله باحجاج
عندما يرحل أكبر مصنع للملابس من المنطقة الحرة بصلالة إلى خارج البلاد، فإنّ ذلك يستلزم طرح تساؤلين في آنٍ واحد وهما، لماذا؟ وكيف؟ وهما من أصعب الأسئلة التي ينبغي أن تطرح في أيّة قضية من القضايا، لأنّها تدخل في الرؤية الاستقصائية التي تبحث عن الأسباب، بل وتنفذ إلى المسببات لتفسير الظواهر التي تظهر فوق السطح، والتساؤلان كذلك يطرحان لرفض إقامة مصانع باستثمارات خارجيّة، لها انعكاسات إيجابيّة وكبيرة على اقتصادنا الوطني وعلى المجتمع وبالذات في مجال توفير فرص عمل عديدة لشبابنا.
قد تنكشف لنا بعض الأسباب المهمة، وقد تظل بعضها مجهولة، ومهما يكن، فإنّ الواقع الحالي للمنطقة الحرة بصلالة لا يتناغم مع المسارات الوطنية الجديدة، بعد أن ظلّ بعيدًا عن مواكبة تحقيق الاستراتيجيات الوطنية المعقودة على المناطق الحرة في بلادنا ودورها الاقتصادي، ويفتح هذه القضيّة الآن، ترحيل أكبر مصنع للملابس من هذه المنطقة لخارج البلاد، ومفاجأة تسريح (204) من العمالة المحلية، أغلبهم من فئات الأرامل والمطلقات والعوانس والمتقاعدين، وقبلها ما تعرّضت له استثمارات خارجية من معوقات، بعضها رحلت، والأخرى، صرف النظر عنها، فهل سيظل هذا الوضع قائما كما هو عليه؟ حاولنا البحث بشيء من العمق في هذه القضية منذ أن فتحناها إلكترونيا مؤخرا، ووجدنا هذا الوضع يتعارض مع توجهات ورؤى واستراتيجيّات البلاد الكبرى، بل ومع انفتاح البلاد مؤخرًا، اقتصاديا على الخارج ببعديه الإقليمي والدولي "بكين للنموذج الدولي، والرياض للنموذج الإقليمي" وهنا يستدعي التساؤلان "كيف، ولماذا؟" نفسيهما، ويفتحان الأبواب على مصاريعها دون تحفظ، ويجعلاننا نبدي علامات استغراب كبرى حول رحيل مصنع الملابس، مما فقدنا تلكم الوظائف، وأخرى قد تصل إلى ألف وظيفة أخرى يخطط المصنع استيعابها قريبا لنمو أرباحه، كما سنفقد ما يضخه المصنع إلى السوق العماني مبلغا يقدر بأكثر من تسعة ملايين وأربعمائة واثنين وخمسين ألف ريال سنويا، وقد بلغت صادراته ووارداته ما قيمته أكثر من ثلاثة ملايين ريال وثلاثمائة وثلاثة وعشرين ألف ريال، كما يعد المصنع مورد إيرادات قوي للمنطقة الحرة، وقد تمّت إقامة ثلاثة مصانع لخدمة هذا المصنع، هي مصانع للبلاستيك والكراتين والقرطاسية، وهي بدورها تشغل مواطنين فيها، مما يعني زيادة حجم الضرر الاجتماعي على وجه الخصوص.
ربما علينا هنا عدم تجاوز إشكالية عدم تجديد شرط الإعفاء الضريبي مع أمريكا لهذا المصنع، حسب اتفاقية التجارة الحرة معها، فإذا كان وراءه تقصير مؤسساتي في عدم فتح ملف التجديد مسبقا، فينبغي فتح باب المساءلة للفاعلين الذين يقفون وراء التقصير، ومن ثمّ تحمليهم مسؤولية تعويض حجم الضرر الاجتماعي على الأقل، فهذا المصنع الأجنبي الذي افتتح قبل عامين تحت رعاية معالي السيّد وزير الدولة ومحافظ ظفار، لم يخطط لنشاطاته في بلادنا وفق الآجال الزمنية القصيرة، كسنة، أو متوسطة الأجل، كخمس سنوات، وإنما لمدى طويل جدا، إذًا، لماذا رحل خلال المدى القصير؟ يقال على نطاق ضيق وبصورة غير مؤكدة أن وراء عدم فتح ملف تجديد الإعفاء الضريبي، محاولة فرض رسوم على المصنع، ورفضه دفع هذه الرسوم، مما يفسر لنا – إن صدقت هذه المعلومة، سببا جوهريا من أسباب الرحيل، وربما يكون هو الغالب، وإلا فكيف نفسر عدم تجديد الإعفاء للمصنع؟
وفي أحسن الظن الذي ينبغي التعاطي معه الآن قبيل رحيل المصنع، وبعد أن وجد بعض المستثمرين معوقات كثيرة ـ لإقامة مصانع في صلالة للتصدير الخارجي - وقد كتبنا عنها مقالين -ورقيا – فإننا نعلي هنا ما من شأنه تطوير المناطق الحرة عامة، ومحافظة ظفار خاصة، لأنّ وضعها الإداري والهيكلي وصلاحياتها الحالية، لن يجعلها تساهم في تحقق الأهداف الاستراتيجية المرسومة - باستثناء منطقة الدقم - فمثلا لو وقفنا عند أهداف المنطقة الحرة بصلالة، فسنلاحظ أنّ الهدف منها، إقامة مركز عالمي وإقليمي لجذب الاستثمارات بما يتماشى مع سياسة الحكومة لتنويع اقتصادنا الوطني، وإيجاد فرص عمل جديدة للمواطنين، فهل رحيل المصنع ورفض إقامة أكثر من ثلاثة مصانع في هذه المنطقة يصب في مصلحة هذا الهدف الاستراتيجي؟ تساؤلات عقلانية، لا يمكن لمقال يناقش مثل هذه القضايا الكبرى دون أن ينفتح معها، لدواعي التحليل والاستشراف من جهة ولضرورة التفكير في التطوير المأمول، والحتمي الذي يتقاطع مع التحولات الاقتصادية لبلادنا، وانفتاحها الاقتصادي إقليميا وعالميا، من جهة ثانية، ولدواعي الاقناع كذلك، نستدعي هنا الهدف من إقامة المنطقة الحرة بالمزيونة حتى نقارنه بواقعها الحالي، لنرى أين يكمن الخلل؟ وقد أنشئت المزيونة لكي تمثل نموذجا لتعاون اقتصادي خليجي خليجي، وذلك لموقع المزيونة بين السلطنة واليمن، بهدف الوصول إلى السوق اليمينة التي يبلغ تعدادها (31) مليون نسمة، وكذلك سوق القرن الإفريقي، وتزداد أهميتها كونها تعد المنفذ البري للدول الست، فهل وضعها الحالي يدلل على حجم طموحنا الاقتصادي منها؟
رحيل مصنع الملابس ورفض مصانع جديدة، نموذج نقدمه للاستدلال به على وجود مشكلة فعلية تحول دون ذلك، وربما علينا تجاوز الماضي حتى لو كان قريبا، فالأهم الآن المستقبل، ولن نجده أي المستقبل في بقاء أوضاع المناطق الحرة كما هي عليه الآن، وإنما الاستفادة من تجربة هيئة الدقم الاقتصادية بماهية ونوعيّة إدارتها تمكنت من اختراق النجاح، وجعل هذه المنطقة نموذجًا للتكامل الاقتصادي على المستويين الإقليمي والعالمي، حيث إنّها تشتمل على ثماني مناطق تطوير اقتصادي وخدمي وهي: ميناء متعدّد الأغراض، وحوض جاف لإصلاح السّفن، وميناء للصيد، ومناطق سياحية وصناعية ولوجستيّة، ومدينة تعليميّة، ومدينة سكنية حديثة، جميعها مخدومة بشبكة نقل متعدّدة الوسائط تشمل مطار إقليمي وميناء متعدّد الأغراض وسكّة حديد وشبكة طرق نقل بري تربط الدقم بمناطق السلطنة المختلفة ودول مجلس التعاون، ومن ثمّ منطقة الشرق الأوسط، وشرق إفريقيا، وجنوب شرق آسيا.
ستظل مثل هذه المناطق الحرة دون الطموح المستهدف استراتيجيا، ما لم تتطور إداريا وفق نموذج هيئة الدقم الاقتصادية، كرفع مستوى الإشراف عليها بمرتبة وزير، وتمنح استقلالية بحيث يمكنها أن تتولى إدارة وتنظيم وصون جميع الأنشطة وتخطط وتنفذ الاستراتيجيات طويلة الأجل وجذب الاستثمارات، ومخاطبة أشخاص المجتمع الاقتصادي على المستويين الإقليمي والعالمي بعيدًا عن البيروقراطية، فإدارتها الآن في حالة تبعيّة مؤسساتيّة مركزية، تجعل مخاطباتها "تتزمنن" وتقيد بحبال البيروقراطية، مما تفقد خاصية القرار السريع وفي الوقت المناسب، فالبلاد في انفتاح اقتصادي، وهذه المناطق لم تعد في مستواه – أي الانفتاح - بل في أدنى منه، فلو كانت إدارتها في مستوى رفيع، ولها استقلاليّة، فكلنا على يقين أنّ مصنع الملابس لن يغادر، وأنّ الثلاثة مصانع لن ترحل، وأنّ استثمارات ضخمة ستتدفق إليها، عندها يمكن الحديث عن تحقيق الاستراتيجيات سالفة الذكر، وعن انعكاساتها الاجتماعية الرحبة، ودون ذلك ستظل قضيّة الباحثين عن عمل تراوح مكانها، والضغوطات على الحكومة تتزايد، وسيظل المشهد، وكأننا لم نغادر مرحلة الاعتماد على الحكومة في التوظيف والتنمية، فحرروا المناطق الحرة من تبعيات المركزية حتى تتناغم مع التحولات الاقتصادية الكبرى، وانفتاح البلاد على أكبر اقتصاد عربي، وهو الاقتصاد السعودي بعد أن كشف الملتقي الاقتصادي بين البلدين عن رغبة مشتركة لإقامة شراكة اقتصادية قويّة بعد رفع الكثير من الهواجس القديمة لحتمية اقتصادية من جهة، وربما يكون وفق رؤية عمانية جديدة للتوازن الإقليمي من جهة ثانية.