موظف بدرجة "جاسوس"

 

مسعود الحمداني

 

في كثير من المؤسسات الحكومية أو الخاصة هناك موظفون استثنائيون، مهمتهم الوحيدة مراقبة تحركات الموظفين الآخرين، ورصد أخبارهم أولا بأول وبثّها للمسؤول المباشر، موظفون يحصلون على بعض الامتيازات الشخصيّة، ولا يفعلون شيئا سوى نقل التقارير الشفهية غير الدقيقة في كثير من الأحيان، ومن ثمّ الحصول على المكافآت، وكلمات الشكر والثناء من رؤسائهم، وهي معادلة تحتاج إلى موظف ذي (عين) لاقطة، ومسؤول ذي (أذن) صاغية.

هؤلاء الموظفون هم (عيون) بعض المسؤولين والمديرين ومن هم فوق المديرين، وهم يحملون مؤهلات خاصة، وصفات سلوكية معينة، فهم (برجماتيون) من الدرجة الأولى، وسريعو الاختلاط مع الآخرين، ويمتازون بموت الضمير، وغياب الحياء، وعدم الاكتراث لعلاقاتهم مع الغير، يتسللون إلى التجمعات الإدارية، ويراقبون أشخاصا ناجحين في العادة، وينتقون ما يريدون نقله من أخبار أو أحاديث أو حركات لرؤسائهم، لكي يسهل على رئيسهم اصطياد منافسيه والتخلص منهم إذا زاحموه على الكرسي، وهم - أي هؤلاء العيون - مخلصون لعملهم الرقابي، الذي كلفهم به رئيسهم في المؤسسة، والذي يمتاز هو الآخر بضعف الشخصية، وسوء الأداء الوظيفي، وعدم القدرة على ضبط دائرته، وإحساسه بالخطر الشديد والدائم من الموظفين الأكفاء الذين يهددون منصبه.

وكم كانت مثل هذه (العيون) سببا في إشاعة الفوضى في المؤسسة التي يعملون بها، وسببا في توتير العلاقة بين بقية الموظفين، وتشتيت شمل الكفاءات، وتهميش الكثير من الأفراد المؤهلين للعطاء، بسبب نقلهم المقلوب للأمور، وإسماع رئيسهم ما يريد سماعه منهم، وليس سرد ما يدور فعلا، وهم بذلك يملكون سلطة غير مباشرة لتفتيت منظومة العمل، وتقزيم أداء الآخرين، من خلال الثقة المطلقة التي يتمتعون بها لدى رئيس الوحدة.

ينشط مثل هؤلاء الموظفين في بيئة العمل الفاسدة، وفي فترات الإدارات الضعيفة، أو تلك القادمة أحيانا من خلفيات أمنية، إضافة إلى غياب الخبرة الإدارية الكافية التي تتيح للرئيس إيجاد منظومة رقابية منهجية لتقييم أداء موظفيه، حيث لا يجد هذا المسؤول غير الاستعانة بموظفين ذوي ذكاء اجتماعي محدود، وأداء وظيفي باهت، لتمرير فكرة الرقابة (اللصيقة) في أذهانهم، وقبل ذلك ينتقي هؤلاء المسؤولين تلك (العيون) بدقة، ممن لديهم الاستعداد الفطري والسلوكي للتعاون (السريّ)، والولاء المطلق لهم، مع إغراءات الترقيات أو الامتيازات الاستثنائية، إلى جانب تقريبهم من جلساتهم (الخاصة) أحيانا، وذلك لبث روح الألفة والطمأنينة بين الطرفين، مع أن ذلك قد يشكّل خطرا مستقبليا لا يحسب له لا هؤلاء ولا هؤلاء حسابا، فـ (من ينقل لك، ينقل عنك).. وهذه قاعدة سلوكية أثبتت مصداقيتها في كثير من الحالات.

إنّ مثل هذه السلوكيات التي لا تخلو منها بعض المؤسسات الحكومية والخاصة ـ كما أشرتُ ـ قد تعطّل الكفاءات الهامة، وتثبط همم الشباب الطموح، وتحد من انطلاق العمل، وتشيع روح عدم الإحساس بالأمان والتقدير لدى الموظفين، وهي بذلك تقتل الإبداع، وفي مقابل ذلك تُخرِج مثل تلك البيئات الفاسدة (طحالب) وظيفية ضارة، تستهلك وقت وجهد المسؤول، وتجعل تفكيره مركزا على التخلص من الأعداء المحتملين، وتصفية العداوات الشخصية مع الغير، بدلا من التركيز على تطوير الأداء وخلق بيئة عمل تنافسية.

"إنّ الوظيفة تكليف ومسؤولية وليست تشريفا وسلطة"، كما قال عنها صاحب الجلالة - حفظه الله ورعاه - ومن هذا المنطلق يجب التخلص من هذه الطفيليات الضارة بالعمل المؤسسي أينما كانت، والتي لا تخدم سوى مصالحها، وأعني بذلك التخلص من طرفيّ المعادلة: الموظف (الجاسوس) ورئيسه المريض.. وأعتقد أنّ الكثير من الموظفين المهمّشين لديهم حكايات تختزنها ذاكرتهم بطلها (موظف) غير أمين ومسؤوول غير آمن.. وما يزال المسلسل مستمرا.