شركات تتاجر بفرص العمل

 

د.عبدالله باحجاج

هذه قضية من كبرى القضايا التي تكشف لنا بجلاء عن اختلالات بنيوية في قضية الباحثين عن عمل في بلادنا، بعلم المؤسسات التي تعنى بهذه القضية، ونفاذا لثغرات قانونية يستغلها المترابحون "ربحني وبربحك" أي المنتفعين منها، وهي تكشف لنا لو بحثنا في خيوطها الخفية – أي ليست سرية - عن حجم مصالحها النفعية المُتبادلة من جهة، وعن استغلال نفوذ ومناصب من جهة أخرى، عن سبب مهم من أسباب تعطيل جهود الدولة في توظيف أبنائها، ومن مثل هذه الأسباب، تبدو قضية الباحثين عن عمل تدور في حلقة شبه مُفرغة، مهما ضخت الدولة من فرص عمل جديدة.

فهناك شركات توظيف تابعة للوبيات مؤثرة ومتنفذة، تمكنت بتطويع نفوذها الخفي من تمرير فرص التوظيف لشركاتها، بحيث تقوم أي شركاتها بتأمين الفرص (الطلب على الوظائف) التي تحتاجها الشركات العمومية وشبه العمومية والخاصة من مختلف التخصصات الفنية والإدارية والأكاديمية من مخرجات التعليم العام والعالي في بلادنا مُقابل مبالغ مالية كبيرة، وتمنح شبابنا أقل من النصف، بينما تحتفظ بالحصة الأكبر، دون القيام بأي جهد إضافي سوى أنها وفرت لهم فرص عمل في هذه الشركات - وفق الحالات التي اطلعنا عليها من أصحاب العلاقة، وفي الشركات التي نحتفظ بأسمائها – فمثلا، تعاقدت إحدى شركات التوظيف مع شركة وطنية كبرى على توفير فنيين وإداريين لها من حملة الدبلوم - سنتين بعد الدبلوم العام أي الثانوية العامة سابقاً – مُقابل أكثر من (700) ريال عماني شهريًا، وتعطي لشبابنا في عقود خاصة معها (400) ريال أو أكثر بقليل مع زيادة سبعة ريالات كل سنة، بينما يظلون محرومين من بقية الامتيازات التي يتلقاها بقية زملائهم في الشركة الذين تعينوا فيها مباشرة، رغم تساوي عدد ساعات العمل والظروف البيئة للعمل مما يولد فيهم شعورا بعدم المساواة في بلادهم، وما لها من التداعيات النفسية، ونتحدث عن أعداد كبيرة قد قبلوا مجبورين بهذا الاستغلال، ففي شركة واحدة فقط، يبلغ عددهم (300) شاب على مستوى البلاد، فكيف ببقية الشركات الأخرى في بقية القطاعات الأخرى، من بينها شركات نفطية خاصة تتعامل مع كبرى شركات النفط الحكومية، والمثير هنا، أن أصحاب شركات التوظيف، نجدهم أعضاء في مجالس إدارات الشركات العمومية الوطنية على وجه الخصوص، وبالتالي فهم يستغلون عضوياتهم لصالح شركاتهم، وهذا يعني أنَّ هذه الشركات تتاجر بفرص التوظيف، وتستغل عرق وجهد شبابنا، ووضعهم كالأجانب داخل وطنهم بمرتبات أقل، قد تصل إلى النصف بعقود لا تتجاوز السنتين، إذ القانون لا يسمح بالعقود المؤقتة للشركة الواحدة لأكثر من سنتين، ويتم التحايل على هذا القانون عبر إنشاء مجموعة شركات مستقلة لكنها تابعة لمالك واحد – متخفٍ - يتم من خلالها تحريك أو تدوير الموظفين كل سنتين من شركته الأولى إلى الثانية .. هروباً من قيد السنتين.

ومن المُفارقة هنا، أنه يمنع أصحاب هذه العقود من المنافسة على فرص العمل التي تعرضها الحكومة على اعتبار أنها مخصصة لمن لا تتوفر لهم أية فرصة عمل دائمة أو مؤقتة، والمفارقة الكبرى الصادمة هنا، أن هؤلاء -أصحاب العقود بسنتين- يحسبون ضمن قائمة الفرص الممنوحة بمكرمة سامية، فماذا نسمي ذلك؟ إنه التوظيف الوهمي الذي يُعطي الانطباع العددي شكليًا، لكنه في الباطن لن يخدم قضية الباحثين عن عمل، وليس لمثل هذه الممارسات من نتيجة سوى أن قضية الباحثين عن عمل ستظل الأولى في بلادنا من حيث ضغوطاتها على الحكومة، ومن حيث قيادتها لمجموعة احتقانات ناجمة عن سياسات مالية واقتصادية، وإذا لم نسارع في حل الإشكاليات التي تعترض مسيرة العمل في بلادنا، فإنَّ المؤشرات التي تتوفر لدينا تشير إلى أن تجربة شركات التوظيف في طريقها للتعميم على نطاق أوسع، وقد تتولد عنها مجموعة ظواهر كظاهرة العمل بالساعة، مثل ما حدث لبلادنا في بداية تجربتنا مع الخصخصة، وهو أول مقال لنا في الصحافة، عنوناه باسم "الآثار الاجتماعية في تجربة الخصخصة العُمانية" فقد رصدنا فيه، شبابا يتم توظيفهم بالساعة حسب حاجة العمل اليومية.

وبعد سلسلة لقاءات مع مجموعة شباب، بدأت لنا قضية هذه الشركات تقوم على فلسفة "ربحني وبربحك" شبيهة تمامًا أو نسخة متطورة من المبدأ الميكافيللي الشهير "الغاية تبررها الوسيلة" الذي سحق تحت أقدامه كل الطبقات الاجتماعية في الدول الرأسمالية، والباحث المتعمق في المبدأين " "ربحني وبربحك + الغاية تبررها الوسيلة" مع الأخذ بعين الاعتبار بيئة تطبيقهما، من حيث نطاقها المحلي، وعملية استهدافهما، ستتجلى له النتيجة واحدة، أبرزها استغلال الطبقات الضعيفة بالمفهوم الواسع في الحالة الكونية، واستغلال الأيدي العاملة الوطنية بالمفهوم الضيق في حالتنا العمانية، من أجل هدف واحد مشترك، وهو امتصاص جهد وعرق الناس، فهل وقفنا الآن عند خلفيات هذه القضية، وأبعادها، وتأثيراتها، وآفاقها؟ وللأسف يقف القانون مع المترابحين، عبر وجود نص قانوني يسمح بذلك، لكنه يشترط عليهم ألا تتجاوز مدة العقد المؤقت سنتين، وهنا تلجأ شركات التوظيف إلى التحايل، فقد أنشأت مجموعة شركات للتوظيف بأسماء متعددة ومالكها واحد، يُنقل الموظفون إليها بعد انقضاء سنتين، وبعضهم على هذه الحالة منذ سبع سنوات – وكان من ضمن الذين التقوا بنا-

أخيرًا، ما ماذا ينبغي القيام به عاجلاً؟ نجد مقترحنا القديم، بإقامة مركز وطني للتوظيف، يتمتع بالاستقلالية، وبالإدارة الوطنية المتخصصة، وتؤول إليه صلاحيات واختصاصات ملف التوظيف في القطاعين العام والخاص، وتؤول إليه كذلك مراجعة واقتراح تشريعات جديدة تسد الفراغات وتضمن حق المواطن في العمل دون الإفراط في حقوق الشركات، وتمنع التلاعب والتحايل كتلك السالفة الذكر، وتضمن أن فرص العمل الآمنة ستكون من نصيب أبناء البلد.