من الذكريات

 

 

د. محمد بن سعيد الشعشعي

 

كان عددنا أنا وزملائي لا يتجاوز السبعة أطفال، كنَّا نسرح ونمرح في طفولتنا في قرية مضي من شمالها إلى جنوبها وهي في الواقع لا يزيد طولها على ٢ كم، بها السكان متوزعون في بيوت مبنية من مواد خشبية شُيدت في بداية السبعينات عندما استقر البدوان في مضي.

كانت الحياة بسيطة وكل شيء كان على طبيعته بدون تنمق أو تكلُّف، كنّا نتردد على بيوت بعينها وقت الغداء أو العشاء وفي الواقع كان السكان جميعًا يتناولون أغلب وجباتهم في بيوت معروفة، فالنفوس كانت طاهرة والقلوب نقية صادقة ويتعامل سكان المنطقة وكأنهم أسرة واحدة في الخير والشر وفي السراء والضراء.

كنَّا نظنُ أنَّ الله خلقنا وحدنا في هذا الكون ولم يخلق سوانا تُحيط بِنَا السماء من كل جانب والجبال الشامخة والعيون المائية وبساتين النخيل والإبل والمواشي والغنم، فالإبل تسرح يوميًا إلى الوديان، وترجع وقت العصير لإطعامها وإدرار الحليب منها، أما الأغنام ففي الأحواش أو الحظاير المبنية من صفائح الشنكو، ترعاها النساء ويُكرم منها الضيف ويدر منها الحليب المغلي بالصخر صباحًا ومساءً الذي يسمى (معذاب)، وما أحلى طعمه عندما تشربه وقت الشروق في عز الشتاء القارس في زحلة الغار أو عند بوابة الكهف الذي تبيت فيه الغنم في الجبال.

أما وقت الصيف أي دخول موسم الخريف فكان أكثر وقتنا بين النخيل عند العم، علي بن مبارك، مالك عدد كبير من النخيل نساعده في تفخيط النخيل وسقيها وتنظيفها وكنا نعرف تلك النخيل المتداخلة نخلة، نخلة، من حيث ملاكها وأنواعها وأيهن تثمر قبل وحتى مسمياتها. ونعرف ايضا كل الذبور وحوزتها. رغم كثرة الملاك وتداخل النخيل فيما بينها .

وفي مضي مقبرة ما تزال إلى اليوم، كنَّا نزورها بعد كل فترة أنا والأصدقاء وكنا نعرف القبور واحدا واحدا نترحم عليهم وندعوا لهم بالمغفرة، وأتذكر جيدًا أنا كنَّا نبحث عن قبور الشهداء الذين سقطوا من مضي أثناء مواجهة المد اليمني الاشتراكي، فكنّا نتساءل عن قبور هؤلاء الشهداء في هذه المقبرة، فقال لنا أحد الزملاء بالنسبة للثلاثة شهداء الذين استشهدوا في معركة حبروت عام ١٩٧٢ وهم لابسون بزاتهم العسكرية فهؤلاء لم يقبروا لأنهم سقطوا في المعركة التي استمرت لأيام وأكلت جثثهم السباع ولم يسمح لأحد بأن يقبرهم نظرًا لاستمرار المعركة، أما الاثنان اللذين استشهدا في خط حيرون مضي، فإنهما قبرا في مقبرة الشهداء في صلالة، هذه المعلومة التي أعطانا إياها الزميل الذي حكاها له أحد كبار السن وفرت علينا الكثير من الجهد والبحث.

تلك أيام بها من الذكريات الجميلة التي تعطينا اشتياقاً للمكان وتمنحنا شموخًا للفخر والاعتزاز بالوطن وبالروح الغالية التي قدمت في سبيل أمنه وصون منجزاته والتصدي لمن أراد به شرا، تلك الفطرة التي ولفنا عليها أو ولفتنا الظروف عليها منذ الصغر في تلك القرية التي كان لها بصمات شاهدة في تاريخ النهضة العمانية الحديثة.