من عجز الموازنة إلى عجز التنويع والتطوير

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

أربع سنوات مضت منذ أن أعلنت الإجراءات التقشفية في البلد نتيجة انخفاض أسعار النفط؛ أربع سنوات أعيد فيها تلاوة خطابات التنويع الاقتصادي والتطوير الحكومي، والمسؤولية الوطنية من قبل الجميع، ولم يعد هناك صوت أو رأي آخر يُمكن أن يسمع في ظل ما يتلى في مختلف الوسائل الإعلامية التي رفعت شعار بناء الأمل الذي لا حدود لتحقيقه، رغم أنَّ هذه الوسائل في سنوات تزايد عوائد النفط لم يُعرف لها شعار تحذر عبره من خطورة عدم الاستثمار الجيد لهذه العوائد، ولا شعار يحذر من بطء سياسات التنويع الاقتصادي، وتراجع مُساهمات القطاعات الحيوية الأخرى.

لكن كان الكثيرون يرون أنَّ من لم يركب هذه الموجة ليس لديه إحساس بالواجب الوطني حتى وإن كان ما يقوم به هو من أجل الاستفادة من هذه السنوات وتعلم الدرس وعدم إعادة نفس التجربة مرتين لأنَّ الأمر يرتبط بدولة واستحقاقات مواطنين لابد أن تهيأ لها الظروف والقوانين والمؤسسات الكافية لنجاح مختلف قطاعاتها، يجب ألا يصور الإخفاق بأنَّه أمر قدري، تتحكم به الظروف الخارجية، لا المعطيات الداخلية بما يتوفر من مؤسساتية، وقوانين وتشريعات ومُحاسبة صرامة، ولذا فإننا نحتاج إلى طرح أسئلة عديدة مع ما نشر من إحالة "مجلس الشؤون المالية" ميزانية 2019 إلى مجلس الوزراء تحت عنوان "تدابير لازمة لتحقيق الاستدامة المالية"، أهمها ما الذي أنجز في تقليص عجز الموازنة؟ وبأي موارد تم تحقيق ذلك؟ وكيف تطبق الإجراءات التقشفية التي أعلن عنها منذ أربع سنوات؟ إنَّ أربع سنوات مدة ليست هينة في عُمر الدول، ولابد من وقفة مع الجانب المؤرق خلال هذه السنوات وهو "عجز الموازنة"، وهو السيف الذي يشهر من قبل مُختلف المؤسسات لتبرير الاستمرارية في تجميد حقوق المواطنين في الترقيات، وفي الضغط على فئات منهم للقيام بأعباء إضافية نتيجة عدم توفر الدرجات المالية، ولتخفيض دعم كثير من المشاريع البحثية والعلمية، وكذلك لدعم المؤسسات الصغيرة، ولرفع أسعار الوقود والخدمات عليهم، وهو الطريق الذي بدأنا فيه ولن يكون عنه تراجع، خاصة وأنَّ الخبر الذي نشرته الصحف الأسبوع الماضي عن مجلس الشؤون المالية يُمكن أن يفهم منه عن استمرارية في ذلك "لتحقيق الاستدامة المالية" للدولة، ومن حق الدولة أن تتخذ إجراءاتها لتحقيق الاستقرار المالي وغيره، لكن أيضًا من حق المواطنين أن يعرفوا ما النجاحات التي تُحققها الحكومة في هذا المجال، خاصة في تحقيق التنويع الاقتصادي، وبناء مؤسسات يُمكن أن نُسميها صديقة للاستدامة المالية"؟

لكي نفهم هذه التداعيات والتطورات وكيفية تحقيق الاستدامة المالية؛ لابد أن ننطلق من فرضية واضحة وهي أن تحقيق الاستدامة المالية على حساب مستحقات المواطنين لا يُعد نجاحًا ولا يخلق استدامة إنما يخلق إشكاليات اقتصادية واجتماعية للمواطنين، الذين يعدون حسب أبجديات التنمية أنهم الغاية النهائية للتنمية، وهذه الفرضية تجعلنا نقول إن كان واقع الاستدامة المالية تحسن نتيجة إيقاف الترقيات، ورفع أسعار الوقود والخدمات على المواطنين، ولم يكن نتيجة نجاح لسياسات التنويع الاقتصادي، وزيادة مساهمات القطاعات الأخرى فذلك يعني عجزا آخر يضاف إلى عجز الموازنة. ويكفي أن نُعطي مثالا بسيطا على ذلك في قطاع السياحة الذي يُبشر به بأنه سوف يكون بترولنا البديل، حيث نشرت إحصائية الأسبوع الماضي مفادها أنَّ السياحة عندنا لا تزال غير قادرة على استقطاب أكثر من (27.4%) من السياح من الخارج، ومعظم الإيراد يأتي من المواطنين في الداخل (%72.6) حسب نشرة إحصاءات السياحة الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، وهو ما يعكس تقدماً بطيئاً جدًا في تطوير هذا القطاع، والأمر لا يختلف في بقية القطاعات الإنتاجية، والتعليمية، مما يقودنا إلى طرح سؤال على درجة كبيرة من الأهمية، كيف يُمكن أن تتحقق الاستدامة المالية في ظل عجز تطوير القطاعات الأخرى؟ والعلاقة بينهما يفترض أن تكون طردية كلما حدث نمو نوعي في القطاعات الإنتاجية كلما نتج عنه استدامة مالية يستفيد منها الجميع، ولا يكون ضحيتها أحد، ولكن إن حدث العكس فهناك ضحايا لتحقيق الاستدامة وهم المواطنون الذين ليس ذنبهم بطء سياسات التطوير وعدم حوكمتها، والمساءلة عليها؟

بعد أربع سنوات نحن أمام مهمتين مرتبطتين هما تجاوز عجز الموازنة المالية، وتجاوز بطء التطوير والتخطيط، لتجاوز العجز الأول لابد من قراءة واضحة شفافة لما تمَّ خلال السنوات الماضية وتحديد النسبة التي ساهم بها المواطنون في تجاوز الحجز وتحقيق الاستدامة، لفهم هذه المسؤولية الوطنية التي أظهر المواطنون وتحملوها والواجب إزائها من قبل الحكومة هذه الفترة في ظل ارتفاع أسعار النفط حتى ولو تم رفع جزئي عن ترقيات الموظفين. أما تجاوز العجز الثاني فلابد من إجراءات هيكلية في بنية القرار الحكومي، لتحديد المراكز الفاعلة وغير الفاعلة، ولتحديد دور هذه المراكز في النهوض بالمؤسسات وتطويرها في ظل محدودية التدفقات المالية، لأنَّ البلد اليوم لا تحتاج إلى من يتفرج على أزماتها إنما تحتاج إلى من يحل أزماتها، ويجعل الناس تلمس تلك الحلول، ومن أربع سنوات حتى اليوم لا يلمس الناس أي تحسن في مُعالجة عجز الموازنة فكل عام يأتيهم بأعباء جديدة، وعندما يسألون متخذي قرار يردون عليهم رداً يعبر عن عجز وهو ماذا نفعل لكم؟ إذا كانوا لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إذن ما مبرر بقائهم واستمرارهم لسنين عديدة؟

نأمل من صُحفنا المحلية أن تعزز ما يتم نشره من أخبار رسمية بتحليلات اقتصادية ونقاشات وتنبؤات لمزيد من إجلاء المعلومات للقارئ، وهو ما يستدعي من هذه الصحف نشر الأخبار وكذلك التوقعات أو المؤشرات التي توضح مستقبل المسار الذي نمضي عليه، فمهمة الإعلام التنوير وتبصير الرأي العام، فالإعلام هو الضمير الحي للوطن.