الخطوط الحمر في المراجعة الجديدة لرسوم البلديات

 

د. عبدالله باحجاج

بعد تأجيلين لتطبيق رسوم البلديات الجديدة، الأوَّل في يوليو الماضي، والثاني مقرر لها في يناير المُقبل، جاءت التوجيهات الآن بوقف العمل بهذه الرسوم، وإعادة مُراجعتها بصورة شاملة بعد أن أثير حولها تجاذبات كثيرة، وواسعة النطاق، وقد أبدت الكثير من الجهات الرسمية كغرفة تجارة وصناعة عمان وفروعها، والكثير من الكتابات الصحفية .. ملاحظاتها جوهرية عليها، وقد عادت الآن من حيث أتت، وهي الآن في المطابخ نفسها التي أنتجتها.

وهذه خطوة صحيحة بامتياز، قد جاءت لتستدرك أخطاء الاستفراد بصناعة القرار، لتضعنا في طريق الشراكة الثلاثية التي تحتمها المرحلة الوطنية الراهنة وآفاقها المستقبلية، فعهد الاستفراد بالقرار قد ولّى أو يجب أن يكون كذلك، فميزانية الدولة قد أصبحت تمول الآن من الضرائب والرسوم يدفعها المجتمع والقطاع الخاص، لذلك لابد من تغليب مبدأ الشراكة إذا ما أريد للقرارات والتشريعات والقوانين أن تساهم في ديمومة الاستقرار والأمن، فهناك شركاء قد تم تغييبهم عن صناعة قرارات الرسوم، وبالتالي فإن مصالح كبيرة سوف تتأثر سلبًا بها، وعلى سبيل المثال، المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وهذه الحالة تتعارض مع سياسة الدعم الحكومية لهذا القطاع الهام، فكيف نتطلع لنهضة هذا القطاع في ظل هذه الرسوم؟ ويبدو أنَّ الغرفة "الأم" وفروعها، قد أشبعوا قراءة وتحليلا لهذه الانعكاسات على هذا القطاع الحيوي، وأصبحت الآن لدى صناع القرار النهائي رؤية كاملة لهذه الانعكاسات السلبية على قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، لكن يظل هاجسنا الأكبر هنا، انعكاسات هذه الرسوم على المجتمع نفسه، فما نشر من رسوم على الأثمان والأنشطة والخدمات التي تقدم للمجتمع ستزيد من أعبائه، وسترهق كاهله المالي، فلا يتصور تطبيق رسوم على العديد منها من حيث المبدأ، لأنها مناطق اجتماعية حساسة جدًا.

فعلى سبيل المثال الرسوم على مربي الحيوانات، فهناك رسوم على المربين لكل نوع من أنواع الحيوانات، فللابل رسوم خاصة بها، والبقر رسوم أخرى، والأغنام كذلك ... إلخ، وكلنا نعلم يقيناً أنَّ المربين في بلادنا، وظفار نموذجا، لا يتعاملون مع حيواناتهم من منظور اقتصادي، أي ربحي، حتى تستهدفهم الرسوم، وإنما هي موروث اجتماعي، له الأولوية في ثقافة المربين حتى على احتياجاتهم ومستلزمات أسرهم، ولا يلجأ البعض منهم إلى بيعه أو ذبحه إلا في حالات الضرورة، ولن نبالغ إذا ما قلنا بأنَّ على الكثير من هؤلاء المربين مديونية متفاوتة الأحجام بسبب ثقل الحيوانات على مواردهم المالية المحدودة أصلاً، والتي هي في أغلبها، إن لم يكن جميعها، ضعيفة، ولن نبالغ إذا ما قلنا، بأنَّ حدود تلكم الأولوية قد ترجح حاجة الحيوان على الإنسان عند البعض، للعلاقة القوية بين المربي وحيوانه، فكيف تفرض على المربين رسوم متعددة ومختلفة على حيواناتهم في ظل تلكم العلاقة الخاصة جدا وغير التجارية؟

وهذه المسألة كانت من بين الأخطاء الكبيرة غير المبررة، ونتمنى ألا تتكرر في المراجعة الجديدة للرسوم بأي شكل من أشكالها، ولو مئة بيسة مثلاً، واعتبارها من الخطوط الحمر التي يجب عدم الاقتراب منها.. للاعتبارات سالفة الذكر، وكذلك لتاريخية تجارب مماثلة ليست بعيدة عنَّا زمنياً، والشيء نفسه بالنسبة للزراعة التي وراءها حمولات وطنية وتاريخية خالصة، كالتمور ... التي ينبغي أن تدعم لا أن تفرض عليها رسوم .. وماهية المرحلة الراهنة مواتية الآن للنظر في مثل هذه الاعتبارات الكبيرة، وينبغي قراءتها وتحليلها من المنظور السياسي وليس الاقتصادي النفعي، خاصة وأن ميزانية الدولة الآن خالية من الضغوطات المالية بعد أن استقرت أسعار النفط في مستويات عليا، وأصبح هامش الزيادة فيها في ارتفاع متواصل، وبالتالي لابد من الانفتاح على مثل هذه القضايا ذات الحساسية الاجتماعية العالية المستوى، وألا تترك كمناطق امتياز حصرية لصناع الرسوم والضرائب الذين يحسبون المداخيل بآلات حسابية للتوصل لنتائج مالية خالصة بعيدة كل البعد عن الحسابات الاجتماعية وانعكاساتها الإيجابية والسلبية.

 فمن سيتولى مسؤولية الدفاع عن الأبعاد الاجتماعية لرسوم البلدية القديمة/ الجديدة؟ إذا ما علمنا بأنَّ الأبعاد الاقتصادية لهذه الرسوم تتولاها الغرفة وفروعها، فمن للأبعاد الاجتماعية؟ بطبيعة المجالس البلدية المنتخبة في المحافظات، فهي ينبغي أن تعبر عن إرادة ومصالح السلطة الاجتماعية التي تستمد منها شرعيتها الوجودية، فهل فعلاً تتولى الآن هذه المسؤولية؟ وإلى أي مستوى من الوعي تناقش هذه المسألة في مطابخ البلديات المركزية والإقليمية؟

كما أسلفنا سابقا، ينبغي أن يكون المستوى من منظور الخطوط الحمر وليس من منظور خفض الرسوم المجزئة على الحيوانات أو حتى توحيدها، أو بقية الأنشطة التي لها تأصيل تاريخي متجذر في الكينونة الإنسانية المجتمعية للمواطن والمجتمع معًا، وهذه رسالة عاجلة للمجالس البلدية، فهل هم مدركون لهذه المسؤولية؟

كما أن هناك بعدا هاما جدا، ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في مراجعة الرسوم، وهو وضعية الأسعار النفطية المُرتفعة، ورفع الضغوطات القاسية على موازنة الدولة، فمعدل سعر النفط (70- 80 ) دولارا للنفط، يدفع بنا إلى التخفيف من تشديد الرسوم والضرائب على المجتمع، وإعادة التوازن المتدرج الطبيعي في التحولات وتطبيق السياسات والاستراتيجيات الجديدة في البلاد، وإعطاء الوقت الكافي للفكر في حل الكثير من الإشكاليات الناجمة عن تداعيات مجموعة سياسات مالية وإجرائية اتخذت منذ منتصف عام 2014، كتحرير أسعار الوقود، ورفع رسوم الخدمات بعضها يصل مائتين في المئة.. وسياسة تجميد الترقيات .. إلخ.

وهناك الكثير من العوامل والمعطيات التي يمكن الاحتجاج بها لإقناع الشريك الحكومي بالاعتداد بالبعد الاجتماعي، وبالذات التسليم بمبدأ التدرج الذي يؤصل مسيرة نهضتنا العمانية، فما تم بناؤه طوال العقود كان متدرجًا، بحيث أخذ بعين الاعتبار التداعيات وإعادة تصحيحها أو التقليل من حجم تأثيراتها، وما يخطط له منذ عام 2014 من تحولات هيكلية وتطورات اقتصادية، ينبغي أن يكون كذلك، متدرجا، للأسباب نفسها، لأننا بكل صراحة ينبغي المحافظة على الصناعة المجتمعية التي أنتجتها المسيرة المتدرجة طوال العقود الماضية، وهذا لا يسقط مبدأ التطوير أو الإصلاح الاجتماعي.

 لكن، ينبغي أن يكون من منظور التدرج المحسوب النتائج بدقة تامة، وليس كما يخطط له من خلال منظومة متكاملة من الرسوم والضرائب يُراد تطبيقها دفعة واحدة أو متزامنة، فذلك يقلب الأوضاع الاجتماعية رأسًا على عقب، فالقفز فوق مبدأ التدرج وآليات تقييم نتائجه بعد كل مرحلة .. هو أيضاً من بين الخطوط الحمر، لأننا ببساطة لدينا قلق على مجتمع تحكمه منظومة بنيوية من قيم ومبادئ أصيلة ومتعايشة مع زمانها ومكانها.. كما أن الظروف الصعبة والمعقدة التي أنتجت منظومة الرسوم والضرائب لم تعد قائمة، فهل نُفكر في الإعادة بكل هدوء وعقلانية وفق ما طرحناه من ضوابط حاكمة للمراجعة الجديدة؟