القنّينة (قصة قصيرة)


د. قائد غيلان - صنعاء


شعرتُ بالإرهاقِ والعطشِ الشديد بعدَ محاضرةٍ شاقة، طلبتُ منها أن تعطيني قليلاً من الماءِ من القنينة التي كانت في يدها، فتحَتْ القنينة وهمّت أن تناولني إياها. شغلني الطلاب هذا بسؤال وهذه باعتراض، وذاك  يريدُ أن يتأكدَ من شيءٍ ماء، وجدتُ نفسي عندَ بوابةِ الجامعة، التفتُّ لأجد الفتاةَ تبتسمُ وتمدُّ لي قنينةَ الماء، عندما مددتُ يدي لأتناولها، رأيتُها تنظر إلى الأرض، نظرتُ فإذا بي أرى نفسي أرتدي جواربي فقط، لماذا لم أرتدي حذائيّ، ولماذا الجوربان بلونين مختلفين، هل نسيت حذائيّ في قاعة المحاضرات ؟ فليس من عادتي أن أخلع حذائي عند أي محاضرة.
 لم يزُل استغرابي من هذا الوضع حتى شعرت أن نظارتي ليست هي، مَـنْ غيّر زجاجَ نظارتي، ولماذا أرى كلّ شيءٍ ضبابياً؟!
في ساحةِ الجامعة وقبلَ أن أصعدَ لاحظتُ ألّا أحد يعطي بالاً لما أنا فيه، كان الطلابُ والطالباتُ يملؤون الساحة، تتداخلُ صورُهم، فلا أكادُ أرى إلا أشكالاً ضبابيةً وألواناً متداخلةً وأصواتا ينادي بعضُها بعضاً ويهمسُ بعضها لبعض، ومازلت أحثُّ الخطى للوصول إلى القاعة للبحث عن حذائي ونظارتي الأصلية، عند بابِ القاعة كان كل شيءٍ ما يزالُ ضبابياً ما عدا الفتاة التي تمسكُ الماء بابتسامٍ شديدِ الوضوح.
عند مدخل القاعة تذكرتُ أني لم أشرب بعدُ من قنينةِ الماء وأني مازلتُ في ظمإٍ شديد، ناولتْـني القنينة ونظَرَتْ إلى الأرض، تناولتُها فرأيت نفسي أرتدي نظارتي الحقيقية ورأيتُ نفسي بكاملِ هندامي وحذائي الجديدين اللامعين، اختفت أصواتُ الناس وبقيَتْ ألوانُهم تطيرُ في سماءِ الحديقة، ولم يعد في المكان إلا أنا والفتاةُ الأنيقة رباعيةُ الأبعاد والألوان والظلال، وابتسامتُها، وقنينةُ الماءِ التي لا أظنُّها تملؤها إلا باتساماتِها التي لا تتوقف عن الإنتاج والبوح والتكاثر..

 

تعليق عبر الفيس بوك