يا أبانا.. إنا ذهبنا نستبق!!

د. سعيد الحارثي *

 

ما إن يدور الحديث في مجالسنا العامة عن أنَّ فلاناً اقتنصَ فرصة جيدة، وبشكل جريء، فأحرز لنفسه مكسباً ما، حتى نصِفه "بالذئب". ولباس الفخر نشعر به يكسونا من أعالينا إلى أخمص أقدامنا. وحقيقة الأمر أن الذئب يعرف كيف ومتى يتحين الفرصة للافتراس والإغارة، ولا أقل من أن يوصف بأنه خبير بفنون الصيد، فهو عزيز نفس لا يأكل إلا طازجاً، ولا يقرب الجيف.

نحن في هذا المسرح المفتوح على فضاء من مكونات ومكنونات الطبيعة في سلطنتنا الحبيبة، كثيراً جداً ما نمارس دور الذئب كأفراد وليس ككقطيع. فحريٌّ بالقطيع أن يتعاون لجلب المكاسب وتقسيم الحصص. ولا يتأتى ذلك للذئب منفرداً، إلا أن تكون مكاسبه غير قابلة للتشارك. وتحتدم مكامن الخطر هنا بانتشار سلوك التجاسر المحموم لامتلاك كاريزما "الذئب الجائع"، الذي لا يلوي على شيء سوى تحقيق المصالح الشخصية والتفنن في أساليب الإفتراس أفقيًّا ورأسيًّا؛ حبًّا في أن تبقى المائدة عامرة وطازجة، وإن اختلط حرامها بحلالها. والحديث عن تمثّل ذلك التسابق واقعياً هو حديث ذو شجون، يلخصه البحتري في قوله: "كلانا بها ذِئْبٌ يُحَدّثُ نَفْسَهُ... بصَاحبهِ، والجَدّ يُتْعِسُهُ الجَدُّ".

تعلَّمنا من الكتب أن الإنسان مدنيٌّ بالطبع!! لكننا لم نكن وقتئذ مُؤهلين فلسفيًّا لأن نسأل معلمينا، السؤال الآتي: "الإنسان مدني بالطبع، في ماذا؟ وعلى أي حال يمكنه ذلك؟"، ثم ماذا تبقى من طبعه ليبقى مدنياً؟ له ما للناس وعليه ما عليهم.

لقد بدا لي بما لا يدع مجالاً للشك أن الإجابة عن هذه الأسئلة هي من الصعوبة بمكان، في ظل تمدد جذور ظاهرة "الذئب الجائع" بين عدد لا بأس به من الشباب العُماني، وعلى مستويات وظيفية أو اجتماعية مختلفة، خاصة حين أصبحت المكاسب الاقتصادية أولوية فردية، ويتم بطريقة ذكية إخضاع سلطة المؤسسة المدنية العامة لها؛ حيث يتوفر في كثير من المواقع من تمرس على عجن طحين الأمة لقوت عياله، ولا ينحصر ذلك على بعض من هم في المؤسسات العامة، بل ينسحب على بعض من هم في المؤسسات الخاصة، والأفراد في كثير من الأحيان.

وعندما نبحث عن المدنية الحقيقية في وسطنا العُماني، فإننا نبحث عن إخلاص حقيقي يستمد نقاءه من العقل السليم، والقيم النبيلة للإسلام وللإنسانية وللعُمانيين على وجه الخصوص، وإن أسوأ ما يمارس ضد تلك الفطرة هو الدهاء الفكري، وما من شك في توفره بغزاره لدى أفراد الإدارة العليا والمتوسطة، إلا أنه لا يعدو عن كونه يستخدم لجلب المنافع الشخصية.

إنَّ مدنية الإنسان في أضعف مستوياتها أصبحت لا تتجسد إلا وفق إطار تنظيمي قائم على المراقبة المحوكمة. وإذا كان تقديم الخدمات العامة عملية متبادلة وتجدي نفعاً لإثبات ممارسة المدنية في أحد أوجهها، فإن الأجدى نفعاً هو أن يتم التحرر من ظاهرة "الفرد" إلى الحالة الطبيعية المتمثلة في مفهوم "المجتمع".

ومن خلال خبرتي العملية في أحد القطاعات التي يتعامل فيها الإنسان المنتِج مع الإنسان المنتَج، أؤمن بأنَّ هناك تطبيقاً واقعيًّا للمدنية حين يتحقق الاندماج الكلي بين العطاء والأخذ، وما عدا ذلك فنحن بين حالتين، إما متمرس يجيد الولوج بين ثغرات الأحكام والتشريعات، وإما منجرف في نهر الاحتقان الذي صيَّره ذئباً مسعوراً يتربص بلقمة العيش لينتزعها من فم غيره. ولم تعد القيم الإنسانية وازعاً محموداً للسلوك إلا بقدر ممارستها في محيط ضيق بين من رحم الله من عباده. ويبدو جليًّا أن المدنية قد أُفرغت من كل محتوياتها إلا المادي منها، وأن الحلقة الأقوى قد وهنت وتم اختراقها بشكل متسارع من خلال قطيع الذئاب ممن يسمنون أنفسهم لملء حيز أكبر من الفراغ!!

... إنَّ الحديث عن الذئب وصفاته لا يعني بالضرورة تقديم صورة سوداوية للظاهرة. فإذا ما تمكنا من إنتاجها بمواصفات أكثر تحرراً وأكثر اندماجاً مع الحالة العامة للمجتمع، وبطريقة انتقائية يُحترم فيها الذئب الشجاع، ويمتهن فيها الجشع، فإننا سنتمكن من الاطمئنان على الحالة الاقتصادية في داخلنا العماني. نحن نحتاج إلى ذئاب ذات خبرة في انتهاز الفرص من أجل جلب الصيد الحقيقي من السوق العالمية، إن كم الدهاء والحنكة المتوفره لدى بعض "الذئاب الشجاعة" من الشباب حري أن يوجَّها لتنفيذ جولات إغارة خارجية أكثر منها داخلية. وعندها فقط سنحقق المدنية الحقيقية بتعظيم قيمة المكاسب المشتركة، ولن يليق بنا قول إخوة يوسف: "يا أبا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب"، بل لسان حالنا سينطق بـ"يا أبا إنا ذهبنا نستبق وجئنا بصيد عظيم"، وسنسلم من أن يقال فينا: "كلانا بها ذِئْبٌ يُحَدّثُ نَفْسَهُ... بصَاحبهِ، والجَدّ يُتْعِسُهُ الجَدُّ"!!

Sokoon05@hotmail.com

* باحث وكاتب عُماني

تعليق عبر الفيس بوك