عقيلة بني هاشم

عبدالله العجمي


اعتادت مجتمعاتنا أن تُقسّم القدوات حسب جنسها، وذلك بأن يكون للرجال رجلاً قدوة، وللنساء امرأة قدوة، وهو تقسيم قد ينظر إليه البعض بأنه طبيعي وتحصيل حاصل، لكن أن تجد امرأة كانت ولا تزال تعتبر قدوة للرجال والنساء على حدٍّ سواء، لهو دليل على عِظمِ هذه الشخصية.. وقد ورد في القرآن الكريم قصتان لامرأتين ضرب الله بهما المثل، حيث يقول الحق تبارك وتعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَة عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) – التحريم آية 11، نلاحظ أنّ الله لم يضرب هذا المثل "للمؤمنات" بل للذين آمنوا، مع أن الخِطاب كان عن امرأة فرعون التي آمنت برسالة موسى عليه السلام وتحمّلت ما تحمّلت في سبيل ذلك، حتى أنها صُلِبت وتُركت تلفظ أنفاسها تحت حرارة الشمس، والسيّدة مريم بنت عمران التي بقيت نموذجاً خالداً للعفة والطهارة وصدق القول.. وفي نهاية الآية وضعها الله في مصافّ القانتين، دلالة على اعتبارها مثلا يضرب للرجال والنساء جميعا..
وإذا ما طالعنا تاريخ الإسلام نجد أن هناك القليل من النساء ممن بلغن هذه المرتبة وقدّمها لنا التاريخ كقدوة للرجال قبل النساء، ولعلّ أحد أبرز هذه القدوات هي السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب حفيدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وابنة فاطمة الزهراء والأخت الصغرى للحسن والحسين، ويلاحظ المتعمّق في دراسة ترجمتها أنها كانت تتمتّع بشخصية فذّة متكاملة، تؤكد لنا أن المرأة قادرة على مشاركة الرجل صلابته وثباته، وأنها قادرة على صناعة المواقف وتحقيق النصر، بل وصنع النصر إذا اقتضت التحدّيات ذلك، أي أنها باختصار يمكن أن توصف بأنها شخصية مُلهِمة بكل ما يحمل الإلهام من معنى..
صحيح أن هنالك من يرى أن السيدة زينب قد دخلت التاريخ من باب المأساة والعاطفة، لكن وبقراءة فاحصة لترجمتها نرى أنها استطاعت بمواقفها أن تعرّج على العقول فتخاطبها لتترسّخ شخصيتها في وجدان الأحرار، ولعلّ ما ذكرته كتب التاريخ لنا عن حياتها الشخصية قبل معركة كربلاء وبعدها قليل، إلا أنّ مواقفها المتعلّقة بهذه المعركة وما تبعها من أحداث، كافٍ لأن يبرز للإنسانية جمعاء هذه الشخصية العظيمة؛ استلهاماً واستيلاداً على كل آلام الظلم والطغيان في عالمنا، ولم تلقّب بالصابرة عبثاً، فقد مرّت بعدّة مراحل ارتقت من خلالها سُلّم الصبر، وبرغم ما مرّت به ومرّ بها.. إلا أنها لم يُرَ منها إلا الصبر، وما زادتها تلك المِحَن إلا صلابة وعزّة، فلم تُصب بأي انهيار، ولم تسقط في شباك الجزع وهي في أصعب المواقف وأحلك الظروف، يكفي أنها بعد أن استشهد أخيها في معركة كربلاء كانت جيوش الظلم والطغيان تنتظرها لتخرج جَزِعةً تدعو بالويل والثبور، لكنها خرجت بكل وقار وثبات وأطلقت عبارتها المشهورة: "اللهم تقبّل منّا هذا القربان".
ومن المواقف التي استطاعت أن تؤكد فيها استحضار قوة الايمان بقضاء الله وقدره، حين خاطبها عبيد الله بن زياد مستهزئا بها بعد مقتل أخيها وبنيها وأهل بيتها فقال لها: كيف رأيتِ فعل الله بأخيكِ وأهل بيتك؟ فأجابته: "ما رأيت إلا جميلاً. هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم"..
كما تذكر لنا أيضاً بعض كتب التاريخ أن حبر الأمة عبدالله بن عبّاس -رضي الله عنه- كان كثيراً ما يرجع إليها في بعض المسائل، وقد كان عندما ينقل عنها شيئا يقول: حدّثتني عقيلتنا زينب بنت عليّ.. وهي إشارة إلى جلالة قدرها، وغزارة علمها الذي استقته من عِلم أبيها وأمها. حيث كانت تلقّب بعقيلة بني هاشم، والعقيلة بمعنى السيّدة في قومها كما ذكرها ابن منظور في لسان العرب.
ولعل أكثر ما يستوقف المتأمل في شخصيتها ومواقفها أن التاريخ قد نقل لنا أنها قالت كلمات شامخة ضمن خطبة لها وهي تخاطب فيها يزيد بن معاوية : "فَكِد كيدك، واسْعَ سعيك، وناصِب جُهدك، فو الله لا تمحو ذِكرنا، ولا تمُيت وَحينا، ولا يَرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فَنَد وأيامك إلا عَدَد، وجمعُك إلا بَدَد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين" هذه العبارة التي أصبحت شعلة لكل حرّ وشعاراً يُرفع في وجه كل ظالمٍ على مرّ العصور.. هي بذلك قد أبقت لنا صوتها الذي لا يزال حاضراً لينتج الوعي والحريّة والعزّة والعنفوان والصبر والثبات والثقة بالله عزّ وجلّ.. وألهمت البشرية أن كرامة الانسان هي أساس كل شيءٍ في حياته، فلا ينبغي أن يخضع لذلّ أو هوان، خاصة أن الأمة هي نتاج تربية المرأة، وقد كانت هذه الكلمات ختام خطبتها التي أفحمت من حولها بأسلوبها البلاغي، وفصاحتها وبقي صداها تردده ضمائر المستضعفين عبر التاريخ، لذا ينبغي علينا استلهام الدروس من مواقفها وخُطبها ونجعل منها مرجعاً لتربية وبناء الأجيال.