الموت البطيء للمستشار والخبير!

حمود الطوقي

من الأمور المُزعجة حقا والمحبطة والتي قد تواجهك عندما تزور صديق لك وهو موظف حكومي قضى سنوات طويلة في خدمة المؤسسة أو الوزارة وتجده يجلس في مكتبه الفاره لأنّه تمت ترقيته إلى منصب مستشار أو خبير ولكن وضعه الحقيقي بعد هذه الترقية كوضع المكتب الخشبي الذي يجلس عليه لا يسمن ولا يغني من جوع. يستقبلك بتثاقل وبابتسامة عريضة وفِي قرارة نفسه يقول ماذا عساي أن أفعل إذا جاءني طالبا لخدمة ما.

هنا سوف أتحدث عن هذا المنصب الخبير والمستشار، وهو المنصب الذي لا يتمناه أي موظف حكومي لأنه باللغة الدارجة من يصل إلى هذا المنصب في بعض المؤسسات الحكومية يعني "تركينه" وسحب عنه كل الصلاحيات وتختلف من مؤسسة إلى مؤسسة ومن علاقة المسؤول الأكبر بالموظف. فهنا تدخل المزاجية في القرار فإذا كانت العلاقة طيبة بين الموظف والمسؤول سيتم تكريمه وإذا كانت العلاقة متوترة سيتم تركينه ليظل بعيدا عن المشهد الوظيفي إلى أن يصدر قرار تقاعده الإجباري.

هذه هي الحقيقة التي يعرفها الجميع ويقتنع بها المسؤول ويتقبلها الموظف لأن المعادلة صممت هكذا وأصبحت هي الدارجة في السلم الوظيفي في معظم مؤسساتنا الحكومية.

نظرا لتفاقم هذه المشكلة ووجود عشرات المستشارين والخبراء في دكة الاحتياط فلديّ مقترح أراه مناسبا وقد يحمل حلا مرضيا لكافة الأطراف.

فالجهة الحكومية عندما تريد أن تتخلص من الموظف تحيله إلى درجة المستشار وهذه الدرجة الرفيعة للأسف الشديد يُساء فهمها وتطبيقها فيصبح هذا المستشار كعالة على المؤسسة، فيعامل وكأنّه حالة دخيلة على المؤسسة رغم أنه كان في وقت من الأوقات يصول ويجول ولديه صلاحيات واحترام كونه كان مرضيا عنه من رئيسه المباشر.

المقترح الذي أنشده هنا أوجهه إلى ديوان البلاط السلطاني وهو من الجهات الحكومية التي تتبنى العديد من المبادرات الوطنية بحيث يتبنى معهد تطوير الكفاءات التابع لديوان البلاط السلطاني مبادرة لصقل قدرات المستشارين والخبراء من خلال تنظيم برامج تدريبية مكثفة لهم تساهم في تطوير مهارات والقدرات الوظيفية لهؤلاء المستشارين أو الخبراء بحيث يتم تأهيلهم إلى قدرات قيادية لمرحلة ما بعد التقاعد. ويمكن أن يتم ذلك التعاون مع معهد الإدارة العامة التابع لوزارة الخدمة المدنية.

فالمستشار والخبير بدلا من أن يكون عالة على مؤسسته وغير مرغوب فيه من رئيسه المباشر يؤهل مهنيا إلى خبير ومستشار وباحث ومحاضر ومدرب ليتخرّج من البرنامج التأهيلي إلى منصب جديد يستفاد منه بعد تقاعده من المؤسسة الحكومية.

هناك طابور طويل وعريض من الكفاءات الوطنية عملت لسنوات طويلة في المؤسسات الحكومية والدبلوماسية وتملك خبرات متراكمة هذه الخبرات الوطنية يجب الاستفادة منها بحيث تدخل سوق العمل والبرامج التطوعية من خلال تمكنهم في المستقبل من تقديم برامج ومحاضرات للأجيال الجديدة ولطلبة المدارس والكليات والجامعات، وكذلك التحاقهم وانضمامهم إلى الجمعيات التطوعية في المجتمع المدني كمتطوعين يقدمون عصارة خبراتهم للمجتمع.

بهذه الفكرة سوف نعزز من قدرات هذه الفئة من الخبراء والمستشارين ليتحولوا إلى طاقات مفيدة للوطن والمواطن بدلا من تركهم معزولين في مكاتب مغلقة ينتظرون صدور قرار إحالتهم للتقاعد الإجباري؛ ليبدأوا مرحلة التذمر والانكماش والموت البطيء.

من المخجل أن تبتعث مؤسسة حكومية أحد موظفيها لنيل درجة أكاديمية مرموقة فتصرف عليه الحكومة عشرات الألوف وتتحمل أعباء كبيرة؛ وعندما يتخرج حاملا أعلى الدرجات العلمية كالدكتوراه والماجستير في مجال تخصصه وبعد عودته إلى الوطن فرحا ومتسلحا بسلاح العلم والمعرفة ليعود إلى مؤسسته يجد أنّ كل شيء قد تغيّر وأنّ مكتبه قد أعطي لغيره وأن عليه أن يرضخ لرغبة مسؤوله ويتسلم مكتبه الجديد بدون أي عمل، ويصدر قرار بتعيينه مستشارًا دون أن يُستشار، وعليه فقط أن يقرأ الجرائد ويحضر إلى عمله متى ما شاء ويخرج متى ما شاء.

هذه حالات من الكفاءات موجودة في مؤسساتنا فبعد نيل أعلى الشهادات لا يستفاد منه ولا من علمه فينهار. ويبحث عن الخروج قبل أن يصاب بجلطة أو اكتئاب.

المرحلة اللاحقة ستكون مهمة بحيث يدخل صندوق تقاعد الموظفين والهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية بتكملة المشوار ورسم خارطة طريق جديدة للموظف المتقاعد بحيث يكون ذا قدرة على التعايش مع المرحلة القادمة لتكون مساهمته كمتقاعد لا تقل عن أي موظف على رأس عمله.