فن كتابة العمود.. المقال الصحفي

 

عبيدلي العبيدلي

رغم أنَّ الكثير منِّا لم يعُد يميز كثيرا، وهو محق في ذلك، بين العمود الصحفي والمقالة الصحفية، وذلك لبروز ما أصبح يعرف بـ"صفحة الرأي" في الصحف اليومية، لكن ما يزال هناك البعض الآخر من المتخصصين في الكتابة لتلك الصحف، يحاولون أن يضعوا خطوطا فاصلة بين الإثنين، فيرون أن الأول هو الذي "يتسم بطابع خاص به ويتحدث في تخصص ثابت لا يعدوه"، في حين أن "المقال الصحفي متغير الموضوعات والتخصصات"، ويضيفون إلى ذلك مقارنين بين الإثنين بأنه بين ما يهتم "بالعمود الصحفي فئة معينة من الناس المهتمة بهذا المجال الذي يتحدث فيه، ولذلك فإنه يتحدث بطريقة تناسب هذه الفئة، وفي موضوعات تشغل اهتماماتهم، أما المقال الصحفي فيتعدد قراؤه من حيث التعليم ومن حيث التخصص، ولذلك فإن طريقته في الكتابة لابد أن تلائم كافة أطياف المجتمع، ولابد أن يتكلم في موضوعات تهم كافة الأطراف حتى يكتب له النجاح" .

في حقيقة الأمر، وبعد التطور الذي طرأ على الصحافة اليومية، وليست الصحافة اليومية العربية استثناء لهذا التطور، حتى وإن تباين المستوى، وتنوعت السمات، يمكننا الذهاب إلى القول بأن مساحات الاختلاف بين الإثنين بدأت في التقلص، وبتنا نلمس هذا التقارب في أشكال الصنفين، وطبيعة معالجة أصحابهما للمادة التي يتناولونها، وطريقة عرضها. وربما حافظ الاختلاف بينهما على نفسه في تباين وتيرة النشر، وحيز المساحة المتاحة لكل منهما.

 وللكاتب محمد بن سليمان القسومي اجتهاد، في هذا المجال، يستحق التوقف عنده، حيث نجده يقول في تشخيص مكثف لهذا النوع من الأعمال الإبداعية، شاملاً الإثنين، حين يقول إن "المقالة أحد الأجناس النثرية المهمة؛ لكنها لم تلق عناية الدارسين والناقدين كالشعر والقصة والمسرحية، وبات الإحساس لدى بعض الكتاب والمتابعين للحركة الثقافية أن اقتحام هذا اللون من الأدب ليس بحاجة إلى إبداع في التناول؛ لأنّ الأمر – في نظرهم – لا يكاد يتعدى إيصال المعلومات العامة، أو الحديث عن الأحوال الجارية .ويبدو أن استئثار الفنون الأدبية السابقة بعناية النقاد قد صرفهم عن المقالة، حتى إننا لا نكاد نجد اتفاقاً فيما بينهم حول مفهومها والمنهج الذي ينبغي أن تسير عليه؛ ولذلك الأثر الكبير في تلك النظرة لهذا اللون من الفن الأدبي".

وقبل تناول الصفات والخصائص المشتركة بينهما، أو بالأحرى الوظائف الذي يؤدي كلاهما، ربما تجدر الإشارة إلى التصور الخاطئ الذي يحمله بعض القراء في أذهانهم، عند تقويمهم لمواد الأعمدة أو المقالات التي يحلو لهم متابعتها. فالبعض منهم يطالبون الكاتب، في تلك المساحة الورقية المحددة المتاحة له، أن يسهب في تناول الموضوع الذي هو قيد البحث، بحيث يغطيه من جوانبه المختلفة: التاريخية، والفكرية، بل وحتى، في بعض الأحيان، الاستقرائية، ويحاسبونه في حال فشل في هذه الأخيرة، في مطابقة الواقع. ويرد على هذا المدخل في تقويم مستوى العمود/المقال الصحفي الكاتب أكرم هلال في موقع "الحوار المتمدن" الإلكتروني منوها "وكاتب العمود الصحفي لا يتعمق في البحث كما يفعل المتخصصون وكتاب المقالات التحليلية، وإنما هو يكتب على فطرته وسجيته كمواطن يعيش وسط الناس يفرح بفرحهم، ويتألم إذا اشتكوا، ولذلك فهو يهتم أكثر بكل ما يهم ويمس مشاعر القراء وعواطفهم".

على نحو مواز، يرى موقع "موضوع. كوم، أن هناك وظائِف محددة للمقال الصحفي تنص على أن:

  • الإعلام حيثُ يُقدّم المَقال معلومات وأفكَار جديدة من نوعِها عن قضايا ومُشكِلات تشغَل الرّأي العام.
  • الشّرْح والتّفسِير وذلك منْ خِلال التّعليق على الأخبار والأحدَاث وتحلِيلَها بهدف استِجلاء أبعادِها ودَلالاتِها.
  • التّثقِيف وذلك عنْ طريق نشِر المَعارِف المُختلِفة التي قد تهِم الإنسان، وجعلِه مُطّلِعا على كل ما هو جديد.
  • تكويِن رأي عام وذلك منْ خِلال التّأثير على اتِجاهات الرّأي السّائدَة في المُجتمَع إمّا بالسّلبيّة أو بالإيجابيّة.
  • التّسلِيّة والامتَاع للتّرويح عنْ القُرّاء مع وجود هدف مُعيّن مُرتبِط بالتّسليّة.
  • تسلِيط الضُوء على بعض مَجالات المُجتمَع التي تكون بحاجَة إلى تنميّة واهتِمام. الدّفاع عنْ الحُريّات التي لا تتناقَضَ مع الأخلاقِيات والمبادِئ السّاميّة.

وبخلاف ما يتوهم البعض، الذين يستخفون بالجهد المبذول وراء إخراج عمود/مقال صحفي بالمستوى اللائق المطلوب، تؤكد الكاتبة منى محمدين على أن "كتابة العمود الصحفي تتطلب جهداً وبذلاً من الكاتب لكل بنات أفكاره حتى تتمخض الفكرة التي يمكن أن يستفيد منها القارئ وتكون قيِّمة وذات مضمون ورأي موفق للرأي العام.. لما للعمود الصحفي من دور مهم في صنع الأحداث ومدى تأثيره على الرأي العام من سلبي وإيجابي،".

وفي حقيقة الأمر، وهي مسألة قد يجادل فيها من يقرأ العمود/المقال الصحفي، فإن كاتب العمود/المقال الصحفي، يحاول، عندما يكون صادقاً مع نفسه أولا، وقرائه ثانيا، وليس أخيرا، أن يبذل أقصى ما يستطيع من جهد كي يرسخ فيما يكتبه "رؤية خاصة جدا لحدث أو موضوع أو قضية يقدمها بشكل دائم صحافي معين، يتمتع بقدر كبير من الشهرة والاحترام والكفاءة الصحفية ... يتسم بطابع هذا الصحفي الذي يكتبه سواء فيما يتعلق بموضوعه أو أسلوبه أو طريقة تقديمه وهو نوع صحفي أقرب إلى الطابع الفكري يتوجه إلى ذهن القارئ

وفي الختام يحضرني نصان يتناولان الدعوة لتجربة الكتابة بشكل عام، وليس للعمود/المقال الصحفي فحسب. أولهما لفضيلة الشيخ الرافعي الذي يقول "إذا لم تزد شيئًا على الدنيا كنت زائداً فيها". وليست هناك قيمة مضافة، في العمل الإنساني، تعلو على تلك القيمة التي تحتويها الكلمة المكتوبة.

والثانية جاءت على لسان شاعرنا الكبير نزار قباني، عندما تغنى قائلا:

يا أصدقائي جربوا أن تقرأوا كتاب

أن تكتبوا كتاب

أن تزرعوا الحروف والرمان والأعناب.