البحر الأسود وشواطئ التقدم

حميد بن مسلم السعيدي

 

على شواطئ البحر الأسود تبحث الوجوه عن الأماكن دون أن تجد المكان، تبحث عن ذاتها بين رماله وأمواجه دون أن ترى موجاً يصطدم بذات المكان، لذا تتجلى جماليات البحر الأسود في تلك الظلمة التي تحدثها غيومه، ولكن الكثيرين يحاولون أن يمعنوا النظر فيها ويتساءلون في ذاتهم لماذا كنَّا هنا؟ ولماذا لم نكن هناك؟

ربما يظل الذهن غارقاً في البحث عن إجابات كثيرة وتفسيرات قد تغير مساره عن المنطق ويبتعد عن المسار الذي رسم له، لذا فالواقعيات والوجوديات لها منظومة لا يُمكن تجاوزها للعقل وكأنها المنطقة المحرمة، والتي يعتقد الكثيرون أن اللجوء إليها من الأخطاء العظيمة.

فالإنسان يحتاج ألا يجتاز مناطق لم تُعد أو تهيأ له مهما كانت رغباته وتفكيره يدفعه لذلك، فتظل هناك أماكن سوداء يجب أن تظل مغلقة للأبد.

وحيث يهرب الإنسان من منطقه نحو اللا منطق يجد كل غرائزه مُعينةٌ له في عبور تلك الأماكن.

هذا التوجه الذاتي يعطي لنا أهمية ودورا في فهم الحياة التي نعيشها أو يعيشها الآخرون، فتركيا تحولت من دولة نامية إلى صاعدة اقتصاديًا وهذا التحول جاء خلال فترة وجيزة اقتحمت نادي الكبار وأصبحت اسماً في الإنتاج العالمي والفارق في عملية التطوير في المواطن الذي كانت لديه الرغبة الفاعلة لصناعة التقدم، هذا المواطن الذي وضع مصلحة وطنه وتقدمه وساماً على جبينه، لذا ميز بين ما يُفيد وطنه وبين ما يضره، واعتمد على الكفاءات واستمع للمفكرين وصنع القرار. في حين أن الكثيرين كانوا بعيدين عن مراحل التطور نظرًا لتغلب الذاتية.

فهناك من يعيش مرحلة الوهم ويعتقد أنه بالطريق الصحيح وقد حقق إنجازات كبيرة في طريق إدارته للأمور ولكنه بالواقع هو مازال بذات المكان لم يُغير شيئاً بل العكس من ذلك فهو يتراجع كثيرًا ويحاول تغيير الواقع أو يوهم الآخرون أنه ناجح، وحيث يظل هؤلاء المسؤولون يديرون مؤسسات غير مُنتجة، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل أين يكمن الخلل؟

هنا تحدث التناقضات فمن يتمتع بهذه الصفات يظل في الدائرة المظلمة ويرفض تقبل الآراء التي تحاول انتشاله من أوهامه، بل يجاهد أن يقرب ممن يتصفون بذات الصفات التي يمتلكها خوفا من إظهار أخطائه وخوفاً من المواجهة مع أصحاب الرأي والفكر.

هناك في الطرف الآخر من يغمس يديه بالوحل والطين ويحاول أن يكون محور التغيير والتطوير ويسعى نحو برهنة ذاتيته ونجاحاته، ويصنع إنجازات فكرية وإنتاجية ويكون صانعاً للمعرفة لا ناسخا أو ناقلا لها، يحقق الرأي ويختلف مع الآخر يثبت الحجة ويقارن المعرفة ويضع الحلول ويبتكر الفرضيات  ويقدم لك الصورة الحقيقية للمواقف التي يجب أن تكون، فهو يبحث عن النور بعيدا عن الغيوم المظلمة يحاول أن يشق طريقه بحثا عن إثبات ذاته بعيدا عن الصراعات والصدامات، ولكنه يرفض أو يتجنب أن يبيع قيمه ومبادئه من أجل إرضائهم أو محاولة تبجيلهم وتمجيد وجودهم فالحقيقة لا تقبل إلا أن تكون واقعاً لا خيالا يرغب فيه الآخرون.

يتحدث الكثير من الخبراء عن أن صناعة التقدم لا تتم إلا عبر تعليم يصنع مفكرين ومبتكرين واقتصادا متعدد المصادر بأنشطته الأساسية دونهما لا يمكن أن يتقدم وطن، لذا اتجهت الدول النامية إلى بوابة المدرسة فأحدثت نقلة نوعية في اقتصادياتها، أما بعض الدول التي تمتلك الموارد فمازالت إتكالية لا ترغب في إحداث عملية التقدم لأنها مكلفة وأولى تكلفتها هي التغيير، ولكن ما الذي يجب أن يتغير؟

يجب أن نغير العقل ونمط التفكير والاعتماد على الكفاءات الشابة ومنحها الثقة في الابتكار، والابتعاد عن الواهمين الذين يعيشون بذات المستوى ولا يرغبون بالصعود للأعلى، فالصعود يعني المغامرة والمجازفة لجني الثمار، وهذا يتطلب الإدارة الفاعلة في المؤسسات.

ما بين هذا وذاك تحدث الصدامات والاختلافات،  فهناك من لا يرغب مثل هؤلاء المفكرين فيعمل على تهميشهم واستبعادهم ومحاربتهم لأنه لا يتقبل نقدهم أو توجيه وتصحيح مساراته وإنما يرغب في الأشخاص الذي يمجدون عمله وأخطاءه وهنا تكمن الخسارة الحقيقية للوطن، في تهميش الكفاءات وتقريب المتملقين، لذا تبقى دائرة التغيير والثبات ودائرة الفشل والإخفاق ذاتها دون إحداث نتاج يغير من عمل مؤسساتنا ويدفعه نحو التقدم.

وحيث تبقى شواطئ البحر الأسود مغلقة يظل فيها الفرد تائها دون تغيير في مسارات التقدم ومن يرغب بالتغيير فعليه عبور مضيق البوسفور ذلك المضيق الذي كان جزءا من صناعة التقدم والحضارة في تركيا والتي عبرت من خلاله نحو الغرب المتقدم.