متمردون لوجه الله

 

 

 

 محمد علي العوض

  • (بعض مودات الرجال سراب)

 

لم تعش الشخصيات التاريخية الخمس التي تناولها كتاب "متمرّدون لوجه الله" لمحمود عوض لترى انتصارها الأخير، ومع ذلك فإننا لا نستطيع تفهّم المجتمع السعودي والحركة الوهابية دون أن نفهم ابن تيمية، وكذلك لن نفهم مصر الحالية دون أن نفهم الأفغاني والطهطاوي وعبد الله النديم، ولا نستطيع فهم سقوط الأندلس بغير أن نفهم ابن حزم.. وإن ماتت تلك الشخصيات جسدًا إلا أنّها لم تمت نموذجًا وفكرة مازالت تُطبّق وتُعتنق حتى الآن، ومازالت نفس السلطة التي عصفت بهم ماثلة في كثير من الدول والبلدان، وإن تغيّر العصر وشخوصه إلا أنّ المضمون الحقيقي لمسببات (التمرد لوجه الله) و(المجتمع بأكمله) مازال موجوداً.

فابن حزم مثلا.. كان كل شيء.. ولم يكن شيئاً على الإطلاق.. كان في رأي أصدقائه نموذجا للفيلسوف المؤمن، ومثالا حيا للإلحاد وقرني الشيطان في نظر أعدائه.. محاربًا بغير سيف ومفكرا بغير تعقيد.. مؤمنا بأقصى ما سمح به عقله وعاشقا إلى آخر نبضة في قلبه.. عشق الله والثقافة والمرأة، واحتفظ لكل منهم بمكانه المناسب في جدول أعماله؛ حتى أنه يكاد يعطيك أكثر من شخصية واحدة في جسم واحد.. لهذا عاش حياته بكل ما استطاع من قوة.. إنه الاتزان حينما يعيش، والرقة حينما يحب.. كان ابن حزم الوزير ابن الوزير والأسرة الغنية، الفرد والمفكر الواحد ضد الأغلبية المطلقة التي رأت أنّ الكتابة في علم المنطق هي خروج صريح على الدين، وأن الفلسفة شر والمنطق مدخل إلى الفلسفة، وطالما مدخل الشر شر فالمنطق إذن شر.. ولكن ابن حزم كان يرى أنّ رأي الأغلبية خطأ فـ"الفلسفة علم الحقيقة، وإنّما معناها وثمرتها والغرض المقصود من تعلمها إصلاح النفس، وهذا لا غيره هو الغرض في الشريعة" وقد بين ذلك في كتابه "التقريب لحد المنطق" الذي قرب فيه المسافة الفاصلة بين المنطق والفلسفة والشريعة..

الأغلبية كانت ترى أنّ حكم الأمويين في الأندلس لابد أن يسقط لكي يحكم العلويون، ولكن ابن حزم يستقرئ التاريخ ويرى أن الدولة العباسية التي اقترنت بمظاهر تقبيل أيدي وأقدام خلفائها تحولت إلى دولة أعجمية، تحول فيها السلطان من خادم للشعب إلى سيف مسلط ضد الناس، وأن بني أمية لم يكتنزوا الأموال ولم يبنوا الضياع والقصور بل كانوا يعيشون في دورهم التي ألفوها قبل الخلافة..

الأغلبية كانت ترى أن المذهب المالكي هو الذي يجب أن يعلو المذاهب الإسلامية الأخرى في الأندلس، ومع أن ابن حزم بدأ كالأغلبية ميالا للمذهب المالكي إلا أنه تحول عنه إلى المذهب الشافعي، ثم انحرف عن الجميع حين بدأ يدعوا إلى "المذهب الظاهري" ويصبح أحد دعاته؛ وهو مذهب يدعو إلى التشدد في الأخذ بحرفية النصوص، ويرى الاعتماد على القرآن والسنة والإجماع فقط كمصادر للدين. ويتشبث في تفسيراته بظاهر المعنى، ويقول "دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه، وجهر لا سر تحته، كله برهان لا مسامحة فيه ... وكل من ادعى للديانة سرا وباطنا فهي دعاوي ومخارق... وما كان عند رسول الله عليه السلام سر ولا رمز ولا باطن، غير ما دعا الناس كلهم إليه" وهو مذهب يرفض الأخذ بالقياس والاستنباط والاستحسان والرأي، ويستنكر مبدأ التقليد حتى لو كان المقلد من الصحابة، ويختلف في هذا مع ما أخذ به الأئمة الأربعة الكبار..

ويعرض محمود عوض ألا أحد وافق ابن حزم على هذا الرأي ويقول إنّ هذه ليست القضية الآن؛ إنما القضية الحقيقية هي أن نفهم سر تعصب ابن حزم وهو المفكر الموسوعي ذو العقل المتفتح لهكذا مذهب، ويضيف أنه لا يمكن فهم موقف ابن حزم هذا إلا على ضوء معرفة حجم الفساد الذي عاصره في مجتمعه، موضحا أنّه كان هنالك فساد أخلاقي وانحلال دفعه لاتخاذ هذه المواقف المتشددة؛ ففي كتابه "طوق الحمامة" يورد قصة المرأة ذات المنصب غليظة الحجاب التي اشتهت فتى صغيرا يمر من الطريق أمام قصرها لتتعلق به وتوقعه في حبائلها لتبدأ فصول من المراسلات الغرامية بينهما..

هذا بجانب الفساد الفقهي الذي دفعه لذلك؛ فبعد أن مات الحكم الثاني "المستنصر" خرج الفقهاء والعلماء والقضاة ليبايعوا ولدا لم يبلغ الثانية عشرة من عمره ليكون إماما لهم وخليفة عليهم..

ويتحدث ابن حزم عن حقبة ما بعد سقوط الدولة الأموية في الأندلس كشاهد عيان قائلا: "اجتمع عندنا في الأندلس في صقع واحد: خلفاء أربعة كل واحد منهم يخطب له بالخلافة بموضعه وتلك فضيحة لم ير مثلها: أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام.. كلهم يتسمى بالخلافة وإمارة المؤمنين".

هذا العصر الذي عاش فيه ابن حزم وصفه المؤرخ الإسلامي محمد عبد الله عنان بأنّه كان عصر تفكك وانحلال سياسي واجتماعي شامل؛ بالرغم مما يبدو من بعض نواحيه البراقة..

وفي هذا العصر تزايدت الجهويّة حيث استند الحكام على الأقليات؛ فقرّب الخلفاء البربر والإسبان كما تسلل اليهود إلى المناصب السياسية.. بل إنّه عصر طعن فيه بعض الخصوم في القرآن الكريم كما فعل "إسماعيل بن نغرالة" اليهودي وزير أمير غرناطة "باديس بن حبوس"، والذي ألف رسالة في الإسلام طعن فيها في بعض آيات القرآن الكريم، وبرغم ذلك أبقاه الأمير في منصبه.. فتصدى ابن حزم له وكتب خصيصا رسالة بعنوان: "الرد على ابن النغريلة اليهودي" بعد أن رأى الأخير يقسم بأنه سينظم جميع القرآن في أشعار وموشحات يُتغنى بها..

رأى ابن حزم كل ذلك وعاشه وتمرد عليه لوجه الله، وحزّ في نفسه أن يرى فقهاء عصره يتقاعسون عن التصدي لابن النغريلة، فكتب يخاطبهم بقوله: "لا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرهم، الناصرون لهم على فسقهم"..

ولم يقف اختلاف ابن حزم مع الأغلبية في اتجاهه السياسي والفقهي فحسب بل اقترب من منطقة تم وصفها بأنّها متفجرة مليئة بالألغام بالنسبة لرجال الدين، وهي الحب بين الرجل والمرأة.. وتعرض لهذا الشعور بالدراسة حينما أصدر كتاب "طوق الحمامة في الألفة والآلاف" ليروي فيه ملاحظاته وخبرته الشخصية واعترافاته من خلال تجاربه الشخصية..

تميز ابن حزم بالرقة في الحب لذا قال: "حضرت مقام المعتذرين بين أيدي السلاطين ومواقف المتهمين بعظيم الذنوب مع المتمردين الطاغين، فما رأيت أذل من موقف محب هيمان بين يدي محبوب غضبان قد غمره السخط وغلب عليه الجفاء"..

بدأت الحرب ضد ابن حزم بمعارضته ثمّ التشنيع عليه من قبل خصومه في السياسة والشريعة والفقه والأدب؛ حتى وصموه بالإلحاد والكفر وانفض الأصدقاء من حوله.. تحمل الاضطهاد والتشريد بقلب سليم وعقل لا يستسلم وبالرغم من أنه كان منفيا إلا أن كتبه وأفكاره قضّت منام السلاطين وعلمائهم فحرّضوا المعتمد بن عباد على حرق مؤلفاته؛ فمات أدبيًا بفعل خصومه قبل أن يموت طبيعيًا.

كان يرى في نفسه صفتين لم تجعلاه يهنأ بعيشه أبدا: الوفاء وعزة النفس.. وهي صفات لا تتوافر إلا في من هم "متمردون لوجه الله".