رحل ولكن سيعود

 

طالب المقبالي

بالأمس كنا ننتظره في لهفة وشوق، وغداُ سيرحل ولكن سيعود بإذن الله تعالى؛ إلا البشر، فالراحل منهم لن يعود.

بالأمس كنا نقضي شهر رمضان الفضيل مع أحبة أعزاء غادرونا إلى الرفيق الأعلى وكنا نحلم سوياً أن يمتعنا الله بالصحة والعافية وأن يبلغنا شهر رمضان المقبل.

 هم غادروا ولم يسعفهم الأجل لبلوغ هذا العام، فيما بقينا نحن وقد أمدَّ الله في أعمارنا بفضل منه ورحمة، فقضينا الشهر مع أحبتنا إلى أن يشاء الله ويأذن بالرحيل، وهذا أمر محتوم على البشرية جمعا.

شهر أقبل علينا والقلوب مشتاقة للقياه وكلٌ خطط لقضاء الشهر ووظفه وفق منظوره ووفق مصالحه ومآربه.

فمنا من انقطع للعبادة وللذكر فصام نهاره وقام ليله، ومنا من قضي ليالي رمضان في إقامة الندوات والمحاضرات وتنظيم مسابقات حفظ القرآن الكريم، ومنا من قضى الشهر متطوعاً لجمع الصدقات وإنفاقها على الفقراء والمساكين، ومنا من قضى الشهر يقيم الأسواق الخيرية ليوزع ريعها على الفقراء والمساكين.

ومنا من قضى الشهر في العمل والتجارة وطلب الرزق، ومنّا من قضى الشهر في الديار المقدسة معتكفاً ومحتسباً أمره إلى الله بنية خالصة، ومنّا من قضى الشهر في غير ذلك.

رمضان يأتي ورمضان يرحل ثم يعود، والفائز من استطاع استغلاله في طاعة الله ورضاه والتفرغ للذكر والعبادة، فمن بلغ شهر رمضان وأحسن استغلاله فقد فاز حتى وإن لم يدركه في العام القادم.

إنّ أيام شهر رمضان تستوقفني دائماً للمقارنة بين رمضان في الماضي ورمضان في أيامنا هذه، فقد أدركت بداية صومي لشهر رمضان في فصل الصيف كما هو الحال الآن، وهنا أود كعادتي أن أعرج قليلاً إلى الماضي، وإلى عهد الطفولة، وإلى عهد ما قبل الكهرباء، فدورة شهر رمضان بين فصلي الصيف والشتاء تستغرق قرابة ثلاثين عاماُ، وكنا حينذاك بدون كهرباء، وكنا نهاراً كأطفال نذهب إلى الأفلاج الباردة فنستحم فيها حتى يتشبع الجسم بالماء البارد، تم نصعد إلى المسجد المجاور للفلج، وكنا نستلقي هناك بجانب النافذة المفتوحة لفترة من الوقت، ثم نعود للاستحمام بالماء البارد، أو نبلل خلقة فنتغطى بها حتى تجف ثم نبللها مرات ومرات إلى أن يحين موعد الإفطار.

لقد كانت الحياة قاسية إلا أن بيوت الطين كانت تحافظ على البرودة والصعوبة كانت عند انقطاع الهواء، وبرغم تلك المصاعب إلا الجميع صائم، وكنا صغاراً نتسابق في ختم أكبر قدر من أجزاء القرآن الكريم.

فلم تكن لدينا ألعاب سوى كرة القدم، وكنا نهجرها في شهر رمضان المبارك من أجل التفرغ للعبادة وللمسابقات في حفظ القرآن الكريم وتعلم العبادات والمسابقات في الخط العربي والإملاء وإتقانه، وتعلم قواعد اللغة العربية والنحو.

فكان أهل حارتنا يحضرون التمور أو الرطب في المسجد، وكانت "الجحلة" وهي آنية فخارية لحفظ الماء معلقة بمعصم في "المنصبة" المغروسة بمحاذاة صرح المسجد، والمنصبة عبارة عن جوس شجرة نُصِبَ أو غُرِسَ في الأرض ولها أطراف صغيرة هُيِّئَت لوضع الجحلة على ركن من أركانها، وكانت توجد في المساجد، والبعض يغرس خشبة متينة بشكل أفقي بين جدارين مفتوحين ويغرس فيها علاقات وهي عبارة عن حديدة معكوفة لوضع آنية الشرب الفخارية عليها وتكون مفتوحة من الجانبين لمرور الهواء عليها، فيكون الماء بارداً نسبياً، والميزة الثانية أنّه في آنية فخارية، وكانت تبرد الماء نسائم المساء، وكان أهل الحارة يجتمعون لتناول الإفطار في المسجد، وبعد الصلاة كلٌ يذهب إلى منزله لتناول وجبة العشاء وهي الوجبة الوحيدة آنذاك، ثم يعود الجميع إلى المسجد لأداء صلاة التراويح، وبعد الصلاة يجتمع الجميع في مجلس أحد مشايخ العلم في الحارة لتدارس علوم الفقه والتوحيد والنحو والسيرة النبوية، ففي كل ليلة يتم تدارس علم من العلوم، يتخلل ذلك تناول القهوة والشاي، بعد ذلك يذهب الجميع إلى منازلهم، وعند صلاة الفجر يلتقي الجميع في المسجد لأداء صلاة الفجر، وبعد الصلاة يجتمع المصلين في حلقة دائرية لتلاوة القرآن الكريم جماعة بالتناوب.

كانت أيام جميلة تحفها البساطة والقناعة، وكان الإحساس بروحانية الشهر الفضيل أكبر مما هو عليه الآن، ففي أيامنا هذه تجد الصفوف ممتلئة لأداء صلاة التراويح في بداية الشهر، ومع اقتراب العشر الأواخر ينصرف الناس عن المساجد لتحضير مستلزمات العيد، فتجد بعض المساجد بها صف أو صفين من المصلين، بعكس الماضي فقد كانت العشر الأواخر تشهد إقبالاً أكثر على المساجد والمحافظة على الصلوات في جماعة.

 

muqbali@gmail.com