قيد الأرض

محمود المدني

  • حاصر قلعة يسوع التي تحصن بها البرتغاليون لأكثر من عامين، فتهاوت قوة البرتغاليين تحت إحكام حصاره

هو الإمام سيف بن سلطان اليعربي عاش في النصف الثاني من القرن الحادي عشر وبداية الثاني عشر الهجري وتوفى سنة 1123هـ. وهو رابع الأئمة اليعاربة، وأقواهم نفوذا وسلطانا.. يرجع نسبه إلى أسرة اليعاربة التي حكمت عُمان وما جاورها من بلاد، وامتد حكمها إلى الهند وإفريقيا، في الفترة من 1624 إلى 1741م، والتي توافق بالتاريخ الهجري 1033 إلى 1153هـ.

تولى الإمام سيف اليعربي الحكم في عام 1104هـ، وذلك بعد وفاة أخيه بلعرب وقد أطلق عليه لقب "قيد الأرض" كناية عن حفاظه على الدولة وممتلكاتها وأراضيها، في الداخل والخارج وما صاحب ذلك من رخاء واستقرار. وقد أحسن السيرة وأنصف الرعية وخضعت لسلطانه القبائل، وقام بعد توليه الحكم بنقل مقر الحكم من نزوى إلى مسقط.

شهدت عُمان في عهده المزيد من الازدهار والتقدم والاستقرار والامتداد نحو مناطق خارج شبه الجزيرة العربية، اهتم "قيد الأرض" بالأرض حيث قام باستصلاح الأراضي وتهيئتها للزراعة، وعمل على توسعة الأفلاج وتطويرها، وهذا يثبت أنّ منجزات الإمام سيف الأول لم تكن قاصرة على الميدان الحربي فقط حيث اهتم بالزراعة فأكثر من تعمير الأفلاج وتوسع في زراعة النخيل حتى كان عند وفاته سنة 1711 يمتلك ثلث بساتين النخيل في عمان كلها. كما اهتم بجلب نباتات من الخارج واستزراعها في الأراضي العمانية مثل الزعفران وقصب السكر وبعض أشجار العطور، فضلا عن جلب النحل من أفريقيا لزيادة إنتاج العسل وكان أيضاً مهتماً بالبناء والتعمير؛ فساهم في إقامة القلاع والحصون العمانية الشامخة التي تقف شاهدة حتى اليوم على تلك الفترة من تاريخ البلاد، وفي الجانب الآخر لم يهمل الإمام الجانب العسكري؛ إذ أولاه جل اهتمامه، فجهز الجيوش ووجهها نحو الكفاح ضد البرتغاليين الغزاة، ومما يُؤثر عنه، رده الشهير على تهديد قائد البرتغاليين، الذي أرسل له رسالة كتب فيها: " من ربان البرتغال إلى الإمام سيف بن سلطان الأول اليعربي، أنتم يا من تحكمون بين رعاياكم في خلافاتهم تعلمون أننا نحن جيش الله، وقد خلقنا لنكون أداة لعقابه الإلهي، ووهبنا السيطرة على الذين يحل بهم سخطه.. إننا لا نرحم من يشكو أو نشفق على من يبكي فقد نزع الله الرحمة من قلوبنا حقا، والويل كل الويل لأولئك الذين لا يمتثلون لأوامرنا، فقد دمرنا مدنا وقضينا على أهلها فإذا قبلتم شروطنا فسيكون هذا من مصلحتكم أنتم لا مصلحتنا نحن، أما إذا رفضتموها، وثابرتم على ظلمكم فلن تمنعكم حصونكم منا… ولن تحميكم جيوشكم فقد أكلتم ثمار الشر، وأضعتم أنفسكم تماما.

تمتّع اليوم فيما يساورك من قلق، فإنك إنما تدفع عقوبة طفيفة لما فعلت وإذا كانت كلماتنا غير مقبولة منكم، فيبدو لنا بالتأكيد أنك ظالم، ولتعلم أن قلوبنا قدت من حجارة وأعدادنا كحبات الرمل، ونحن نعتبر أن أعدادكم الوفيرة قليلة، وقوّتكم خسيسة.. إننا نحكم الدنيا بالتأكيد من مشرق الشمس إلى مغربها، وقد بعثنا لكم هذه الرسالة، فأجيبوا عليها بسرعة قبل أن تتمزق جباهكم، ولا يبقى منكم شيء …".

فكان رد سيف بن سلطان اليعربي قوياً، كقوة صاحبه؛ حيث أجابه قائلا: " وقد رد الإمام على غطرسة هذا المجرم برسالة جاء فيها: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير" لقد طالعنا هذا الخطاب الذي يقول: إن الله انتزع الرحمة من قلوبكم، وتلك واحدة من أقبح أخطائكم بل أسوأها، وأبشعها وأنت تلومنا وتقول أنتم الظالمون، ألا لعنة الله على الكافرين فالذي بيده البذور لا تهمه الفروع.. إننا نحن المؤمنون حقا، ولن يعصمك الهرب منا، ولن يعترينا أي شك أو تردد، فلقد أنزل علينا القرآن وكان الله دائما رحيما بنا..

ولتعلم إن خيولنا، وأساطيلنا ممتازة برّا، وبحرا، وعزائمنا سامية رفيعة، ومن ثم، فإننا إذا صرعناك، فسيكون هذا عملا صالحا، وإذا قتلتنا، فلن يكون بيننا، وبين الجنة إلا لحظة "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله".

وأنت تقول إنّ قلوبكم كالجبال، وأعدادكم كالرمال، والجزار لا يهمه العدد الكبير من الخراف، والماعز، وإن الله مع الصابرين، وهكذا، فإن لدينا القوة التي تسمو على الرغبة، فإذا حيينا، فسنحيا سعداء، وإذا متنا فسنموت شهداء "ألا إن حزب الله هم الغالبون"  لقد بلغتم أمرا تكاد السموات تتفطر منه، وتنشق الأرض، وتتهاوى الجبال، وتتحطم ، فقل لسادتك إنه حتى إذا رصعوا رسالتهم بالجواهر، وأقاموا موضوعه بعناية فإنها لدينا ليست سوى كصرير باب أو طنين ذباب “سنكتب ما يقولون وسنطيل عذابهم”، وليس لدينا بعد ذلك ما نقول إلا أن الجبال سوف تمطركم وابلا والنار تكشف العار، والسيوف تشحذ على الأعناق، والسلام على من اتبع الهدى، وخشي عذاب الجحيم، وأطاع الله مالك الملك، وفضل الآخرة على الدنيا، والصلاة، والسلام على خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم. ". وقد قيل إنّه اجتمع له أكثر من ستة وتسعين ألفاً من الجنود، ناهض بهم البرتغاليين الغزاة في كل معاقلهم في عُمان والهند وحتى شرق إفريقيا، حاداً بذلك من جرائم البرتغاليين التي ارتكبوها في الساحل الهندي، ومحققاً الكثير من الانتصارات، وملقناً لهم الدروس في حسن التعامل مع الأسرى الذين أحسن وفادتهم وأكرم ريادتهم. ومن شجاعته أنه لمَّا ضاق أهل ممباسا بحكم المستعمر البرتغالي، الذي كانوا قد رزحوا تحت غلظته زمناً ليس باليسير، وقضَّ جوره مضاجعهم بنذر غير يسير، ووجدوا منه ما لم يسر بالهم، أو يطيقه غني أو فقير؛ استجاروا بقيد الأرض، فأرسل لهم جيشاً كبيراً قوامه ثلاثة آلاف جندي، حاصر قلعة يسوع التي تحصن بها البرتغاليون لأكثر من عامين، فتهاوت قوة البرتغاليين تحت إحكام حصاره، وقتل منهم الكثير وتلظّت نفوسهم من انتصاره، فسقطت قلعتهم وتبعتها بقية القلاع والحصون والمدن، وبذلك تمَّ تحرير أهل ممباسا من قبضة الظلم والقهر التي أرهقتهم وحطّت من كرامتهم. وخلال سنوات حكمه دان لسيطرته المحيط الهندي وفتح كثيراً من البلدان الإفريقية.

تعليق عبر الفيس بوك