أمريكا.. فرضية التصادم مع الحلفاء

جمال الكندي

بعد انتظار وترقُّب، وأخذ ورد، ظهرتْ الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في كيفية التعامل مع السياسة الإيرانية في المنطقة، والتي بُنيت على خلفية خروج الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الإيراني، فقبل ذلك كانت أمريكا مقيدة بهذا الاتفاق غير المرحب به من قبل الرئيس ترامب، والدائرة المُقربة منه، وبعض حلفائه العرب مع إسرائيل.

حيث طرح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، 12 شرطاً للتوصل إلى اتِّفاق جديد مع إيران، داعياً جميع حلفاء أمريكا للانضمام إلى الجهد الأمريكي ضد إيران. وقال أيضًا: إن الإستراتيجية الجديدة تتكون من 7 محاور للتعامل مع إيران، مؤكداً أنَّ الضغط الاقتصادي هو الجانب الأبرز من الإستراتيجية، مع وقف دعم الإرهاب -كما يقول- والانسحاب من سوريا.

خروج أمريكا من هذا الاتفاق كان ترجمة للشعارات التي رفعها ترامب خلال فترة الدعاية الانتخابية للرئاسة الأمريكية، وهو أمر كان متوقعاً مع المتغيرات السياسية والعسكرية التي حصلت في المنطقة.

إعلان الإستراتيجية الجديدة في التعامل مع إيران كان من بوابة فشل الرهان الأمريكي من مخرجات استحقاقات مايو السياسية، بداية من الانتخابات التشريعية اللبنانية والعراقية، وما نتج عنها من تبعات من تغير المشهد السياسي خاصة في لبنان، مروراً بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وما نتج عنه من اضطرابات، كل هذه المتغيرات تتهم فيها إيران عن طريق تدخلها في شؤون المنطقة وتقوية محور على حساب آخر.

فشل الرهان الأمريكي في إيجاد أرض ثابتة له ولحلفائه في الجغرافية العراقية واللبنانية والسورية، أوجد في العقل السياسي الأمريكي إستراتيجية محاصرة إيران اقتصاديًّا لإضعافها أو القضاء على نفوذها في المنطقة، والذي -برأي رئيس الكيان الصهيوني نتنياهو- زاد بعد الاتفاق النووي، فكان لابد من إيجاد أي ذريعة للخروج من هذا الاتفاق، وإعادة النزاع مع إيران للمربع الأول.

الكُرة اليوم في الملعب الأوروبي والإستراتيجية الأمريكية ليست موجهة إلى السياسة الإيرانية فقط، لكنها تستهدف الشركات الأوروبية، التي سبب لها هذا الاتفاق انتعاشاً اقتصاديًّا، والعقوبات الأمريكية المقبلة ضد إيران ستؤثر على إيران وعلى الشريك الأوروبي.

من هُنا، تباينتْ سياسة الاتحاد الأوربي وأمريكا؛ فهي ترفض بشدة الخروج الأمريكي من هذا الاتفاق، ويتزعم هذا الرفض بريطانيا وفرنسا وألمانيا؛ لذلك نرى الاجتماعات بين الجانب الإيراني وهذه الدول مستمرة لمحاولة طمأنة إيران بخصوص وفاء الأوروبيين بتعهداتهم تجاه الاتفاق النووي مع إيران حتى بعد خروج أمريكا منه.

هنا.. نحن أمام سؤالين كبيرين وعريضين؛ هما: هل تفعلها أوروبا وتخرج من العباءة الأمريكية؟ وهذا إن حدث ولو بدرجاته الدنيا ستكون سابقة يُغرد فيها الأوروبيون خارج السرب الأمريكي تحت عنوان المصلحة الاقتصادية.

ما يهم إيران هو ضمان التعاملات والتبادلات المالية مع الجانب الأوروبي، فالجميع يعلم مدى سيطرة أمريكا على النظام المالي العالمي، والسؤال الثاني هنا كيف ستتمكن أوروبا من الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه إيران في ظل الحصار الاقتصادي الأمريكي؟

الإستراتيجية الأمريكية الجديدة جاءت من رحم فشل أمريكا في سوريا والعراق ولبنان واليمن، فهي في هذه الدول لم تتمكن من ترسيخ الإرادة الغربية سياسياً وعسكرياً، والاعتقاد السائد أن النفوذ الإيراني سواء كان سياسياً أو عسكرياً أحبط المُخطط الأمريكي الذي رسم للمنطقة.

هي معادلة أمريكية جديدة مفادها: إيران باتفاقها النووي امتلكت القدرة المالية الكبيرة التي قوت بها اقتصادها المحاصر قبل الاتفاق، وهذه كانت إيجابية في الإسهام العسكري الإيراني في سوريا والعراق، والنتيجة هزيمة "داعش"، وهذا بدوره هدم الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، والتي كانت تريد من "داعش" وغيرها الأداة التي بها تدخل إلى المنطقة وتقسمها لمصالحها الخاصة ومصلحة ربيبتها إسرائيل.

لذلك؛ قالها صراحةً وزير الخارجية الأمريكي: "نريد الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة"، ولن يكون ذلك إلا بالخروج من الاتفاق النووي، وخلق أرضية جديدة لإعادة العداء الإستراتيجي الأمريكي لإيران ما بعد الثورة.

المشكلة الأمريكية تبرز في إقناع المجتمع الدولي بعدم جدية تطبيق إيران لبنود الاتفاق النووي؛ فإيران بحسب وكالة الطاقة النووية ملتزمة ببنود الاتفاق، والأوروبيون يؤكدون ذلك، وهذه هي المشكلة بينهم وبين الحليف الأمريكي، فالكل ينظر إلى إيران حسب الزاوية الخاصة به فأوروبا مهتمة بالجانب الاقتصادي، أما أمريكا والتي ذهبت إلى هذا الاتفاق إبان رئاسة الرئيس الأمريكي السابق أوباما؛ لتحقيق منجز سياسي كبير قبل انتهاء ولايته الرئاسية، حتى ولو كان ذلك لا يرضي إسرائيل وبعض الدول العربية، وهذه الإستراتيجية تغيرت بوصول ترامب إلى الحكم، وتغير الموازنات السياسية في المنطقة والتي يدعي خصوم هذا الاتفاق أنها بسبب الانفتاح مع إيران وتخفيف الضغط الاقتصادي عليها.

مُستقبل الاتفاق النووي مرتبط اليوم بالجانب الأوروبي، في جديته بعدم الإخلال بالاتفاق، ومدى قدرته على مخالفة التوجهات الأمريكية، والخروج من دائرتها التي طوقت الأوروبيين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

إنِّه اختبار كبير للأوروبيين للموازنة بين حليفهم الأمريكي ومصالحهم الاقتصادية، وفي القادم من الأيام سوف تشهد المنطقة معادلة أوروبية، إما أن تكون جديدة أو معدلة أو خاضعة كعادتها -ولو على حساب رفاهة شعوبها- للأوامر الأمريكية، ولا نملك إلا الانتظار والترقب.