العزلة حياة

محمد علي العوض

شغلت "الحكم العطائية" الناس كثيرًا لما حوته من خلاصة لتجربة صوفية عميقة، سبرت أغوار النفس الإنسانية، وسعت لتجريدها من كل شائبة، وتنقيتها من كل عالقة، وقد صاغها صاحبها ابن عطاء الله السكندري في أكثر من مئتي حكمة، تباينت ما بين مسحات الوضوح والغموض الذي يُثير الفضول، ويدعو لبذل الجهد في فهمها. وهي كما يصفها المفكر الإسلامي والباحث العرفاني بدر الدين أبو البراء كلمات نورانية همس بها القلب لابن عطاء الله السكندري، فلامست شغاف قلوب أناس كثيرين، وفي أصلها حكم مستخلصة من كتاب الله وسنة رسوله وتجربة ابن عطاء الله، أي أنّها خلاصة تجريب لا تجريد وحفظ متاح للكل بحسب المواعين والأفهام وعامل السن؛ فالقضيّة كما يقول أبو البراء - ضيف برنامج " "مدارج السمو" والذي تقدمه الإعلامية لمياء متوكل على أثير إذاعة "البيت السوداني"- تكمن في التجريب وليس الحفظ، وهذه النصوص أن تحملها من أجل أن تتذوقها وأن تلامس القلب من أجل أن تجد لذته وحلاوته فذاك هو المعنى المطلوب.

في مقدمة الحلقة كانت للضيف لطيفة جميلة عن الصيام حين قال إنّ الصيام يشير إلى التنقية أو التخلية -على حد تعبير أبو حامد الغزالي- وأن تُخلّي من أجل أن تُحلّي، ويشرح ذلك بقول مفاده أنّ الفرد يحمل في داخله وعلى عاتقه كميّة من الشوائب وأمراض القلب، يتخلى عنها في هذا الشهر الكريم؛ يتخلى حتى عن حق الرد (فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إنّي صائم) ولفظة "فليقل" هذا ليست قولا فحسب، بل لتتذكر أنّك توقفت عن المباح من الأفعال من أجل أن تتوقف عن الذي لا يباح في هذا الشهر الكريم؛ وهذا معنى التخلية، أي أن تدع الصيام يلامس شيئا ما بداخلك، فالصيام مراد به ملامسة ما هو موجود بداخل كل فرد منا، فالوجود كله داخل بني آدم، لذا فلندعه يبحث عنها بالصيام؛ فنحن نبحث عن كل مطلوباتنا في الخارج – وهذا هو التزوير الذي تم- وحتى على مستوى الإصلاح لا أحد منّا يتخيل أنّ الإصلاح يبدأ من الداخل، وربما يتخيل البعض أنّ هذا الداخل رهين بالسمت والمظهر العام الخارجي وما نحفظه من نصوص؛ فتعتقد أنك صاحب الإصلاح الأول وحامل سوطه، وتملك معاييره ومقاييسه، وزِنة الناس بناء على هذه المعايير.

يتفق أبو البراء مع صاحبة البرنامج أن الإصلاح على مستوى النفوس قمة الترقي، مضيفًا أنّ الإصلاح يشغلك بنفسك عن الناس، ولنا أن نتخيل مآلات الأحوال وتحسنها لو انصب جهد كل فرد منِّا على نفسه. وإذا رُمنا معنى البناء الصحيح فيجب ألا نطلبه من الآخرين بل نبنيه في نفوسنا لنجده بعد قليل متجسدا قائما في الخارج، وأي بناء لا يقوم في النفس ينتفي تمثله في الخارج، ولن تجد من يستطيع إنبات المعاني إن لم تغرسها بداخلك. ورحلة البحث عن هذه المعاني إن لم تبدأ من الدواخل تصبح هدرًا للوقت.

ويطرح الباحث العرفاني سؤالا عابرا حول الحكمة العطائية (ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة) مفاده: كيف تنعزل من الحياة؟ لافتاً إلى أنّ الحديث هنا ليس عن العزلة في الحياة بل دخول الحياة من أوسع أبوابها. ويلفت نظرنا إلى أن ابن عطاء الله يتحدث عن عزلة القلب لا عن عزلة مدافعة الحياة بالجسد والبناء، لكي لا يحدث لبس في هذه الحكمة.. ضاربا نموذجا بمطالب الإنسان كالأكل والشرب والنوم.. فالجسد دواءه عند الطبيب؛ لكن تكمن الخطورة في مرض القلب، ولن يتم اكتشاف تلك العلل إلا بالدخول في العزلة.. فالحديث عن عزلة على مستوى القلب لا الحياة أشار إليها الحديث النبوي "ما من نبي إلا وتحنث".. والتحنث هو العزلة، لأنّه لا طريق لنقاء القلب إلا بهذه العزلة، فمخالطة الخلائق وأنفاسها بما فيهم من أفكار وآلام وقلق يُعبّر عنها بكلمات وحالة من الضيق؛ ولن يتحقق لك الابتعاد عن محيط هذه الأفكار وتأثيراتها الكبيرة عليك إلا بالعزلة.

وذات المعنى عبّر عنه سيد الوجود صلى الله عليه وسلم في حديث "نافخ الكير وحامل المسك" فالمعنى الدلالي لنافخ الكير ليس مقصودًا لذاته بحرق الثياب وإنما تأثيره على محيطه وبنفس الشاكلة حامل المسك تدل على تأثرنا بخلق الصاحب والصديق القويم الحسن..

وفي معرض إجابته عن سؤال مقدمة الحلقة حول توقيت العزلة يقول أبو البراء إن عزلة القلب ليس لها توقيت، لكن معروف أنّ وقت السحر هو وقت نقاء؛ لأنّ كل الطاقات السيئة تكون خامدة ونائمة في ذلك الجزء من الليل.

هناك عزلة أخرى مقامها أعلى درجة، وهي العزلة التي نسبها الباحث للسيدة رابعة العدوية، حيث كان حال رابعة فيها الاختلاط مع الناس ولكنّ حديثها كله عن الله ومع الله؛ كما في مناجاتها لربها:

ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي لمن أراد جلوسي

فالجسم مني للجليس مؤانس وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وعن مكان الخلوة والعزلة لا يحدد صاحب العرفانيات مكانًا مخصصًا، وإن كانت الجبال أفضل مكان للعزلة والخلوة، بما لها من طاقة عالية؛ بسبب اتصالها ببعضها بعضا، فالعلم يقول إنّ ما يظهر من الجبل ما هو إلا جزء بسيط من مجمل ارتفاع الجبل، وأنه يعمل عمل الأوتاد ويحمي الأرض من الزلازل "وجعلنا الجبال أوتادا" فهو – أي الجبل- متصل مع المصدر وأمّه الأرض لذا تزداد طاقته، وكذلك الإنسان لابد له أن يتصل بأمّه الأرض، لذا لابد أن تمشي في يومك حافيا أو تسجد على الحصا والصعيد الطاهر وأن يلامس جسدك التراب، لتزيد من طاقاتك الإيجابية.

وابن عطاء الله عندما يقول "ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة" فإنه يقصد أنّ القلب عندما ينعزل ويلج ساحة العزلة تتوارد كل الأفكار المدونة في اللاوعي، وتتداعى أمام عينيك كشريط سينمائي فتلتقط من بينها الفكرة التي تستطيع العيش بها، ويرى أبو البراء أنّ ميدان الفكرة يدخله نقي القلب ونقي السريرة.

ويتفق مع مُقدمة الحلقة في تشبيهها لهذه العزلة بالحميّة للمريض التي تنقي الجسد من كثير، مؤكدًا أنَّ العزلة تساعد على تحديد مرض القلب وتشخيص حالته وكيفية شفائه، ومصطلح الحميّة صحيح؛ فالحمية تُطبب وتحمي القلب مما علق به من شوائب؛ وتمثيلات القلب كثيرة منها أنهم يشبّهونه بالإسفنجة، وبصفاء اللبن، وكبر الحجم وسعته الناس، وشبّهوه أيضا بـ "الكوز مُجخيا" أي الوعاء المقلوب - كما في الحديث الشريف-.

لذا لابد أن يكون القلب نقيا أبيض خاليا من كل شائبة، ونسمع تلك المقولة المعنويّة "أنّ فلانا يحمل قلبا نظيفا" أي كأنّه أخرج قلبه وحمله على راحته وغسله من كل الأدران، ويصبح الأمر واقعًا محسوسًا في شخص النبي الكريم كما يقول صلوات ربي عليه: "جاءني الملكان فشقا صدري فأخرجا قلبي فغسلاه في طست من ذهب مملوء بماء زمزم، فأخرجا منه علقة سوداء فرمياها فقالا هذا حظ الشيطان منك وملآ قلبي حكمة"..

فبمثلما نغسل وجوهنا وأجسادنا بطاهر الماء وزكي الغاسول يجب أن نغسل قلوبنا وألا نهملها حتى تذوي وتمرض.