دروس مكونو.. وتوقيتاتها السياسية والتنموية

 

د. عبدالله باحجاج

ما هي أهم الدروس التي ينبغي أن نعلي من شأنها الآن بعد أن خرجنا من محنة إعصار مخيف جدا؟ هذا التساؤل ينبغي أن يطرح على صعيدنا المحلي من جهة وكذلك الصعيد الوطني من جهة ثانية، فإعصار مكونو وتوابعه القوية، يعطينا خارطة بمختلف السيناريوهات المستقبلية التي يجب العمل على تأمين سلامة الناس وحماية مكتسباتنا التراكميّة.

وكل مطلع على أسوأ تداعيات مكونو كان ينتابه الرعب من احتمالية مرور مركزه داخل المدن، وبالذات صلالة، وحتى المواطنين والمقيمين كانوا يشعرون بقلق متصاعدة في كل حالة تصعيد للأمطار الغزيرة والرياح الشديدة وارتفاع أمواج البحر ودخولها للمنازل، والمثير أنه في خضم هذا الوضع، كان دعوات العمانيين عامة والنخبوية خاصة تعزز فينا الأمل بالأمان رغم توالي تصعيد الاعصار، وحتى عندما كانت تداعيات الإعصار تقترب من السيناريو الأسوأ المحتمل، كنا على ثقة بأن الله عز وجل سيستجيب للدعوات سواء تلك التي ترفع للسماء من ظفار أو تلك التي كانت تصلنا من  داخل البلاد وخارجها، فتضرع سماحة المفتي أن يحفظ  الله عمان وأهلها عامة وأهل ظفار والوسطى على وجه التخصيص من كل سوء، قد وصل إلى القلوب، وأضاف إليها مشاعر وجدانية في مسيرة لحمتنا الوطنية، وكذلك توالت التغريدات التي تلح بالدعاء لتجاوز محنتنا مثل التغريدات المتوالية  لسعادة الدكتور محمد بن سعيد الحجري ممثل ولاية بدية في مجلس الشورى، ونستدعي هنا إحدى تغريداته المؤثرة التي تعزز الثقة بالأمل ونحن في رحم المعاناة "ستنجلي الغمة، وسنرى رحمات الله وألطافه.. " وفعلا انجلت الغمة، وكنا فعلا شهود عيان على رحمات ربنا عز وجل، رحمته الكبرى في تحويل مركز الإعصار إلى المغسيل من جهة الجبل وليس من داخل المدن للتوجه للصحراء، ورحمته بكميات الأمطار الكبيرة التي لا تزال تتساقط حتى الآن، والتي سينتفع منها الإنسان والأرض والحيوان لسنوات طويلة.

والمتأمل في قوة التلاحم العمانية سالفة الذكر، وكذلك مبادرات الأهالي والجمعيّات في الكثير من ولايات البلاد، وإرسال متطوعين الى قلب الحدث غير عابئين بحياتهم، سيدرك بوضوح، أنّ اللحمة الوطنية هي سلاح بلادنا الأقوى، وإنّها الرهان الأول الذي ينبغي أن نعول عليها لمواجهة كل المؤامرات الخارجية لبلادنا، وكل الأنواء والأزمات الطبيعية وغير الطبيعية التي قد تشكل تحديات لمسيرة عيشنا المشترك، والمتأمل كذلك، أنّ لحمتنا الوطنية، تنطلق الآن من مبادئ ثابتة، قد أصبحت النخب مع مجتمعاتها على وعي كامل بها ، وهى التي تقود المسيرة، وقد جسدته أي الوعي من خلال إعصار مكونو في قمة تجلياته ومعانيها الإنسانية والوطنية، حتى أولئك الذين قدموا مساعدات عينية، كان دافعها إحساسهم الوطني، وبوعيهم بالدور التاريخي الذي قام به كل أبناء عمان في الأعاصير السابقة وعلى وجه الخصوص جونو، لذلك يسود التقدير العام لمثل هذه المشاعر العالية المستوى دون النظر لمسألة الحاجة إلى مثل هذه المساعدات أم لا، فما وراءها من مبعث قلبي قد وصل إلى قلوب كل أشقائهم في ظفار والوسطى، من هنا ينبغي أن نترك وراءنا الآن بعض المنغصات الشاذة، وننظر إلى مواصلة المسيرة بكل ثقة، وببرامج اندماجية أكثر عمقا، وهنا نقترح إجراء حوار وطني رفيع بين مثل تلكم القمم الفكرية بعيدا عن الأضواء، يكون هاجسه تعزيز العيش المشترك لمواجهة كل المخاطر والتحديات المقبلة، وقد أصبحت الآن معروفة تماما، لذلك لابد من الإسراع إلى قطع الطريق في وجه من قد يحاول أن يستغل ثغرات في جسم عيشنا المشترك،   فقدر هذا الجسم الواحد الآن، أن يعصف فكر نخبه في كيفية تحصين ذاته من منظور فهمه الخاص بعد أن تأسست الثقة المشتركة بالمصير الواحد، في الحزن - لا قدر الله - وفي الفرحة - إن شاء الله دائمة - فما يحدث في ظفار يتداعى له كل عمان، وما يفرح نزوى ومسندم والبريمي.. هي نفس الفرحة لبقية محافظات وولايات البلاد، لذلك لن نخشى على بلادنا في ظل هذا الوعي المعزز للحمة الوطنية، وبوجود رجال عمان الأوفياء والمخلصين الذين بهروا العالم باحترافيتهم في مثل هذه الأزمات، بحيث أصبحت لدينا الأن إدارة متكاملة للأزمات لمختلف الأنواء المناخية، سنجد في أية بقعة على ترابنا وقت الحاجة إلينا، فتحية تقدير وشكر عالية لهم، لقد رفعتم الرأس عاليا، وأنتم فخر البلاد، ونموذج للشخصية العمانية التي تظهر معادنها وقت الأزمات.

هذه الحقيقة الثابتة التي تخرج مجددا من رحم إعصار مكونو وتوابعه، لا ينبغي أن تجعلنا نتغاضى عن الاعتراف بانكشاف مشاكل كبيرة قديمة وجديدة، تؤثر سلبا على قوة سلاحنا الديموغرافي، وتجعل نفسياته محل مد وجذب.. في تناغمه مع الحكومة، فهذه الأنواء المناخية قد أظهرت البنية التحتية ينبغي أن تتطور وترفع كفاءتها لمواكبة مثل هذه التحديات، وكشفت كذلك عن خطأ تموضع بعض المشاريع الخدمية والتنموية، المنجزة منها مثل المطار القريب من إحدى كبرى مجارى السيول، والشارع المؤدي إليه قد عرقلته في حالات كثيرة سقوط الأمطار وجريان السيول، أو تلك التي على وشك التنفيذ قريبا، مثل المستشفى الجديد، فهل سيتم نقله مكانه إلى مستوى مرتفع وبعيدا عن البحر؟ فوضع المستشفى الوحيد حتى الآن في ظفار قد لجأ إلى نقل مرضاه جوا إلى مستشفيات مسقط وتحويل بعض المرضى الى مستشفى عسكري، وقد زرته أمس، ووجدت غزو المياه الى داخل الكثير من مرافقه، وأكياس التراب على مداخل أبوابه.. والقضية هنا أن كل الشوارع المؤدية إليه كانت مغلقة بسبب الأمطار وكمياتها الضخمة، وبالتالي فإن حجة الطوابق للمستشفى قد أسقطها مكونو، فاذا سلم المستشفى الجديد من دخول مياه الأمطار اليه، فكيف سيصل المرضى إليه، وكل الشوارع المؤدية إليه مغلقة؟ لأنه في منطقة منخفضة وعلى مستويات البحر القريب منه، وماذا يعني هذا؟ يعني ضرورة أن يكون المستشفى الجديد في منطقة مرتفعة عن سطح البحر، وبعيدة عنه، ويكون الوصول إليه متاحا حتى في مختلف الأنواء المناخية.. إلخ.

القائمة طويلة بالانكشافات لكن الذي نود التأكيد عليه هنا، أنّ مكونو وتوابعه، يعطي لكل ولاية من ولايات محافظة ظفار بل والسلطنة عامة، الإمكانية لرسم خارطة جديدة بالتحديات المقبلة، حتى لا تواجه مصير استمرار انقطاع التيار الكهربائي والمياه عنها أو عن بعض مدنها كما شهدنا أمس مناشدات أهل عوقد في صلالة وولاية ضلكوت التي وصف مصدر رسمي رفيع فيها الوضع بالحرج لاستمرار انقطاع التيار الكهربائي والمياه والاتصالات.. ولنا تصور الوضع الصحي والمعيشي هناك لو ظلت هذه الانقطاعات مستمرة لفترة من الزمن؟ فهل سيبادر مكتب وزير الدولة ومحافظ..... إلى دعوة كل ولاية إلى رسم خارطة بتحدياتها وكيفية مواجهتها؟ كما هل سيبادر إلى مساءلة ومحاسبة الشركات التي نفذت مشاريع تنموية كبيرة، كشف مكونو عن ضعف جودتها؟ لا يمكن الاحتجاج بالإعصار، كمبرر للقبول بالخسائر، فهو لم يدخل إلى المدن، وكل ما دخلها هي أطرافه، فكيف بدخوله - لا قدر الله - ومع ذلك أحدث أضرارا مادية وبشرية.. وسيدخل ضمن الأعاصير التاريخية التي مرت على بلادنا، لكن علينا الاستفادة من دروسه.