رأيتُهم يا الله..!


إدريس علي - سوريا


كان القصفُ عنيفاً تلك الليلة على أطراف القرية، صغاري الأربعة تكوّموا كجراء في حضن أمهم، التصقوا بها تماما.
ابنتي الصغرى، ترجتني وهي تبكي ألا أخرج: بابا لا تطلع مشان الله نحن خايفين كتير.
أردت الخروج من قبو المنزل الحجري، القبو الذي كان عبارة عن زريبة لمواشي أبي في زمنٍ مضى. الضربة التالية كانت في القرية، اهتز البيتُ وسقطت عن الجدران القبو بعض الحجارة الصغيرة، كما امتلأ المكان بغبار عتيق خانق، أدركت حينها أن بيتا قريبا جدا منا تعرّض للقصف.
لم أستطع البقاء، فقد يكون أحدهم بحاجة للمساعدة، خرجت وكلمات صغيرتي تقصف هي الأخرى أذني بصفير حادّ مؤلم.
كانت العتمة سائدة في الخارج قرب باب القبو، لكن النار المشتعلة في بيت معمو، أضاء الزقاق الضيق، معمو، جاري، الذي يفصل بين دارَينا فناءُ العم سعدو الواسعُ المسوّرُ بالحجارة والمزروع بكل أنواع الشجر العفريني، الزيتون والكرز واللوز والجوز والرمان والمشمش.
توجهتُ نحو دار معمو، كان ثمّة رجال من القرية يحومون حول الفناء الذي ملأه ركام المنزل الحجري، لم أميّز منهم غير حنّان، صديق أمسيات الشعر والطرب في مضافة الأستاذ رمضان في قرية بليلكو، الباقون كانوا قد تلفّحوا بأردية على وجوههم تجنّبا للاختناق من الدخان الأسود الذي غطّى المكان.
هززتُ كتفَ حنّان وطلبت منه المجيء معي إلى داخل الفناء، سِرنا ببطء، بعد أن بللنا ردائي رأسينا ولففناها حول أنفينا وفمنا، كان الركام متناثرا في كل زوايا الفناء، تجاوزتُ بعض الحجارة في طريقي، ودون أن أرى أمامي وطأتُ بقدمي على شيء طريّ، تفحصتها بيدي، كانت ذراعا صغيرة مدمّاة، دختُ لوهلة، وتقيأت، أعادني حنّان إلى رشدي بأن سحبني من يدي نحو الركام الكبير، وهو يقول: دعنا نلقي نظرة هنا، لعلنا نجد أحدا حيّا فننقذه.
أحدهم كان يسير ورائنا وبيده مصباح، أجال بضوئه بين ركام المنزل.
رأيتهم يا الله ..!
أشلاء أجساد عائلة معمو في كلّ مكان، رأس امرأة مهشّم، لم يبق ما يربطها بجسدها سوى خيط من الجلد، طفلتا معمو الشقراوتان غُطّيتا بالكامل تحت الحجارة، لم يظهر غير جديلتيهما الذهبيتين ملطختان بالدم والأتربة، وتحت سقف المنزل المنهار كان نصف جسد معمو العلوي يتدلّى نحو الأسفل ويده ممدودةٌ حيثُ جثةُ طفلٍ صغير فقدت ذراعها تئنُ في الظلام.

 

تعليق عبر الفيس بوك