البشير في مصيدة الإسلاميين

محمد علي العوض

لم يكن أكثر المتشائمين يدُر بخلده أنَّ السودان سيتهاوى اقتصاديًّا أكثر مما هو عليه، بعد الرفع الجزئي للعقوبات الأمريكية المفروضة على البلاد منذ أكثر من عقدين؛ فمن غير المعقول أن يصمد بلد لأكثر من 20 عاما ضد عقوبات دولية مفروضة عليه وحصار أمريكي جائر؛ ثم ينهار بعد رفع تلك العقوبات بلحظات؛ خصوصا أنّ هناك تطمينات سرت، أحيا بها الحزب الحاكم آمال الشعب في إقالة البلاد من عثرتها بعد رفع العقوبات، وفتح الأبواب أمام التجارة والاستثمارات الأجنبية والدخول مجددا إلى النظام المصرفي العالمي.
ما قبل رفع العقوبات، انقسم الإسلاميون في السودان إلى معسكرين؛ الأول: كان يأمل وضع العربة أمام الحصان وعدم رفع العقوبات أو الرضوخ لمطالب واشنطن؛ حتى تظل -العقوبات- بدورها شماعة تعلق عليها السلطة إخفاقاتها السياسية والاقتصادية، ودثارًا تستر به عوراتها الاقتصادية، ونغمة تدغدغ بها عواطف الشعب وتجييشه تحت ذريعة نظرية المؤامرة؛ متى ما أرادت أن تحشد الناس حولها. أمَّا المعسكر الآخر، فاعتنق مقولة حقٍ أراد بها باطلا؛ حين كان ظاهر رأيه رفع العقوبات الأمريكية من أجل مصلحة الشعب وحل المشكل الاقتصادي، وباطنه تحويل ما ابتلعه من أموال إلى الخارج قبل أن تتبخر فقاعة العقوبات وتأتي دولة المحاسبة والقانون، وتسأل: من أين لك هذا؟ فيجيب المفسد: ما أخذت شيئا، فقط هذا وذاك؛ وإن شئتم فخذوه؛ في الوقت الذي تكون فيه الأموال طارت بعصافيرها بعيدًا نحو الخارج وقبل عدة أشهر.
وكعادة أقدار كل السودانيين دومًا حين تموت الأفراح في مهدها، وقبل أن تكتمل الصورة وقع الطلاق بالثلاثة بين نتائج رفع العقوبات والحلم بتحسّن الاقتصاد؛ حيث تهاوى الجنيه السوداني أمام قبضة الدولار وواصل سقوطه حد أن يوازي الدولار 50 جنيها قبل أن يأخذ في الانحدار النسبي بسبب سياسة التجفيف المالي التي اتبعتها الحكومة. ومؤكد أنَّ هذا التهاوي المتسارع لم يكن من قبيل الصدفة، بل يبدو أنَّ المعسكر المناصر لرفع العقوبات والمسيطر على مفاصل الدولة بمؤسساتها واقتصادها وماليتها وإداراتها ومرافقها العامة قد حقق مبتغاه، وحانت ساعة تحويل الأموال للخارج، فعمد إلى سحب مبالغ ملياريّة ضخمة أدت إلى فجوة في النقد الأجنبي، وأزمة نفط خانقة يدور همس في المجالس حول أنّها مفتعلة لإحراج البشير، والضغط عليه من أجل التنحي، وتعريته أمام شعبه أكثر فأكثر. ويتفق هذا مع اتجاهات في ذات السياق ترجح أنَّ هناك مؤامرة حقيقية من لدن الحزب الحاكم، وبإيعاز من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، ومباركة دول إقليمية أخرى؛ بُغية إغلاق السبل الكفيلة بجلب الدعم المالي الإقليمي وإنقاذ البشير من ورطة تأزم الأوضاع الاقتصادية.
ويُقرأ هذا على خلفية مطالبة نافذين في حزب المؤتمر الوطني الحاكم الرئيس البشير الاكتفاء بفترته الرئاسية الحالية، وعدم الترشُّح لانتخابات 2020، وتسليمه السلطات لنائبه الأول بكري حسن صالح لفترة انتقالية، بضمانات أمريكية تقضي بتعطيل ملاحقته قضائيا من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
المصادر تقول إنّ البشير ما زال غير مقتنع بالضمانات الأمريكية التي قُدمت له، وتُفسر خطوة حشده ما يعرف بقوات الدعم السريع تحسبًا لأي محاولة انقلابية من حزبه أو الجيش -الذي بايعه مرشحا لانتخابات 2020- رفضه ما قُدم من ضمانات أمريكية/عربية.
وفي محاولة مستميتة لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، وكسب مزيد من الزمن، وفي تناسٍ تام للمثل السوداني القائل: "المتغطي بالزمن عريان"، أجرى البشير منتصف الأسبوع الجاري عددًا من التعديلات الوزارية الجديدة، وصفها الشارع السوداني بأنّها "طعن في ظل الفيل"، ولم تخرج عن كونها تدويرا للمناصب، وتحريكا لرقع الشطرنج من مكان لآخر؛ في تجاهل واضح لأُس المشكلة؛ فبيت الداء يكمن في الفريق الاقتصادي الذي يدير بلدًا متعدد الموارد في حين أنّ الأزمة الاقتصادية والمعاناة اليومية تطحن شعبه كل يوم، ولن ينصلح الحال بتغير اللاعبين أو جالسي الكراسي، بل بتغيير العقلية والمنهجية التي تدير البلاد، وإرساء سياسات اقتصادية ناجعة تقضي على فساد المتنفذين، وتهيئ للسودان سبل الاستفادة من ثرواته الكامن منها والظاهر، وهي كثيرة.
تساءل كثيرون عن سر إحجام السعودية والإمارات -حليفتي البشير الغنيتين- عن تقديم يد العون للرئيس البشير -لاسيما في مسألة أزمة النفط الأخيرة- باعتباره لاعبا رئيسيًّا في عاصفة الحزم، قدم أكثر من أربعة آلاف مقاتل لدعم الحلف في حربه باليمن؛ وكانت صحف خليجية قد ذكرت أنّ السعودية والإمارات وضعتا شروطاً للحكومة السودانية لضمان استمرار الدعم الاقتصادي؛ أبرزها: قطع العلاقة مع تركيا وقطر، والتضييق على الإسلاميين، وعدم ترشح البشير في انتخابات 2020م؛ لكنّ السودان على لسان وزير إعلامه نفى تعرّض الحكومة لتلك الضغوط، واصفهًا إيّاها بغير المنطقية، قبل أن يضيف قائلا إنّهم لا يأتمرون بأمر أحد.
ما سبق لا ينفي وجود توتر بين الطرفين، دفع البشير لإخراج ورقة الضغط الأخيرة؛ بإعلانه -في رسالة واضحة للسعودية والإمارات- الأسابيع الماضية عن تقييم مشاركة القوات السودانية في اليمن، تحت دعاوى الأزمة الاقتصادية الخانقة، والضغوط الشعبية الواسعة لسحب القوات السودانية؛ خوفا من تورط السودان أكثر في مستنقع الحرب، والدخول في أزمة مع المواطن اليمني المتضرر، الذي بات ينظر للسودانيين كغزاة طامعين، يهدفون لزعزعة استقرار بلاده، بجانب ما يراه آخرون حول خروج التحالف عن مساره بعد أن اختلفت الرؤية الإمارتية والسعودية حول الأهداف والدوافع؛ الأمر الذي دَفَع الإمارات حينها لإرسال وفد رفيع المستوى إلى الخرطوم، تحت عنوان تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، في الوقت الذي أعلنت فيه السلطات السودانية عن اتفاقها على مسودة اتفاقية مع السعودية لإمدادها بالنفط، وإعلان سفير المملكة العربية السعودية في الخرطوم أنّ المملكة ستوقع قريبًا مذكرات تفاهم مع السودان في المجالات العسكرية والاقتصادية، إلى جانب ضخ مزيد من الاستثمارات السعودية لزيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين، لتعلن الخرطوم بعدها الإبقاء على قواتها في اليمن، وعدم الانسحاب، واستمرارها في دعم التحالف.
الكلٌّ -معارضين وموالين- يشاهد الآن مشهد تضعضع حكم البشير من على مقاعد الفُرجة والمتابعة.. فهل سينتهي مشهد السقوط كما يشتهي السادة النظّارة، أم سيقلب الجنرال الطاولة على الجميع كما جرت العادة دوما؟..
الإجابة في رحم الغيب القريب!