رسالة ماجستير لإيمان بنت خميس السنانية

زينب الغريبية

الدراسات الأدبية من الدراسات الإنسانية المهمة، والشعراء هم - في أغلب الأحيان- مادة هذه الدراسات وهم جديرون بذلك، فالشاعر في الحقيقة هو أكثر من مُثقف، وأكثر من مبدع، وأكثر من مُهتم بمجتمعه، وفي المنتهى هو أكثر من إنسان، وإذا كانت القبائل العربية تحتفي بمولد الشاعر وبزوغه، فمن حق العالم - بعدما صار للإبداع صفة العالمية - أن يحتفي بالشعراء، ومن مظاهر هذا الاحتفاء تناولهم بالدرس والتأمل، والتنوع في مداخل قراءة شعرهم.

والذي يفرق دراسة عن دراسة في هذا المجال عدة اعتبارات تُمثل أطراف هذه الدراسة، فالشاعر كلما كان قوياً ذا مكانة بين الشعراء كان ذلك إضافة للدراسة، والباحث كلما كان جادًّا مُتمكنًا من أدواته، يعي منهجه جيدًا ولا يشتط عنه، كان إضافة للدراسة، وتناسب الموضوع المختار مع الشاعر المختار بما لا يجعل للتكلف مدخلاً في دراسته من أهم هذه الاعتبارات التي تعطي الدراسة قوة وأهمية.

وثلاثة الاعتبارات متوافرة في هذه الدراسة؛ فالشاعر بلغ من المكانة ما يجعله من أهم الشعراء المعاصرين، بما يحمله من تنوع ثقافي وعلمي، ومن اقتدار على الشعر وتمكنه منه، والباحثة جادة في بحثها عميقة في تناولها دقيقة في عرضها، والموضوع وهو «الاغتراب في شعر سيف الرحبي» مُناسب تمام المناسبة للشاعر فإنّه قضى حياته بين القاهرة وبيروت ودمشق والجزائر وبلغاريا ولندن وباريس والإمارات وأخيرًا عاد إلى مسقط رأسه عُمان، ليجتمع في شأنه الغربة الحقيقية والاغتراب.

قسمت الباحثة دراستها لثلاثة فصول: يتضمن الفصل ثلاثة مباحث، يدرس المبحث الأول تتبع مفهوم الاغتراب في معاجم اللغة العربية القديمة والحديثة، ثم تجليات هذا المفهوم في تراثنا الأدبي. أما المبحث الثاني فيدرس الاغتراب في الأدب العربي قديمًا وحديثاً وفق التسلسل الزمني للعصور الأدبية العربية. وجاء المبحث الثالث يدرس الاغتراب في تجارب الشعراء العُمانيين قبل النهضة وبعد قيامها، كما أشارت الباحثة إلى نماذج من الشعراء المعاصرين لسيف الرحبي الذين عاشوا تجربة الشاعر نفسه.

أما الفصل الثاني:  فتناول ألوان الاغتراب عند سيف الرحبي، ودرست الباحثة فيه ألوان الاغتراب في تجربة الشاعر سيف الرحبي بتسليط الضوء على نصوصه الشعرية التي تلامس نظرته لمفهوم الاغتراب، وتحليلها باتباع المنهج التحليلي الوصفي من أجل الكشف عن تجليات هذه الظاهرة. ويتضمن هذا الفصل مبحثين الأول عُني بدراسة الاغتراب المكاني، وجاء في محورين الأول يدرس تجليات الغربة والمنفى، ومحور آخر يدرس تجليات الشوق والحنين إلى الوطن والأهل والمكان، فالشاعر الذي تفصله المسافات عن وطنه وأهله بمرور الزمن تعود به الذكريات لتلك الأمكنة والوجوه. أما المبحث الثاني فيتحدث عن الاغتراب الوجودي لدى الشاعر الذي تتمثل في حيرته الوجودية في هذا الوجود، والاغتراب الذي يسكن نفسه إحساسا وشعورا حتى إن أستقر به المقام بأرض وطنه وكان بين ذويه وأهله.

وتناول الفصل الثالث العناصر الفنية في شعر الاغتراب عند سيف الرحبي: وهو ما يُمثّل الجانب التطبيقي من الدراسة. وجاء هذا الفصل في ثلاثة مباحث، الأول يدرس الصور الفنية لشعر الاغتراب، وعملية بناء الصور في نصوصه الشعرية التي اعتمدت على التشبيه والاستعارة والأسطورة.

ولما كانت دراسة المعجم من الشواهد الحقيقية على الظاهرة في شعر الشاعر سلَّطت الباحثة الضوء على دراسة المعجم الشعري لتجربة الاغتراب الذي يظهر عمق التجربة ومدى تفاعل الشاعر معها. ثم بنت على قراءة هذا المعجم الاغترابي إحصاء مهمًا يبين هذه الظاهرة، ووضعت الجداول والخانات لعدد الكلمات التي تتكرر في قصائده الشعرية، والتي تتضمن ظاهرة الاغتراب التي استقاها من ألفاظ الطبيعة، وألفاظ السفر.

ويتناول المبحث الأخير دراسة البنية الإيقاعية وبالتحديد الموسيقى الداخلية، باعتبار أن تجربة سيف الرحبي تقع ضمن إطار قصيدة النثر التي تخلو من الموسيقى الخارجية.

وختامًا: إن الباحثة موفقة في اختيارها دراسة ظاهرة الاغتراب، فإنها ظاهرة أساسية في كل الشعر المعاصر تقريباً، في عصر تتلاحق فيه الأحداث، وتتحكم فيه الدوائر، ويشتغل الناس بعضهم عن بعض، حتى يشتغلوا عن أبنائهم وأهليهم، ويلجأ المبدعون إلى العزلة الشعورية عن المجتمع والناس، بل وعن النفس، والشاعر الذي يحيا بهذه الطريقة ويعيش تلك الأحداث يشعر بالاغتراب لا محالة، وفَصْل ما يشعر به الشاعر عن شعره مستحيل، فيستقر في الذات المبدعة ويطفو هذا الشعور على السطح عند معاناة الإبداع على أي صورة كان هذا الإبداع شعرا خالصا أو نثرا  خالصا، أو في قصيدة النثر أو في غيرها من القوالب التي تصب فيها هذه المشاعر. ويختار الشاعر دون قصد ألفاظا وتراكيب وصورا مستقاة من هذا الشعور بالاغتراب، ويستدعي شخصيات يتخذها قناعًا ويبث من خلالها ما يعجز عن البوح به مُباشرة، وغالبًا ما تكون هذه الشخصيات المستدعاة تعيش حالة اغتراب مشابهة لحالة الاغتراب التي يعيشها الشاعر، حتى تتماهى الذاتان -الذات المستدعية والذات المستدعاة- ولا يمكن الفصل بينهما. فموضوع الاغتراب موضوع لا يخلق بكثرة التناول، بل هو ما يزال رطبًا؛ لأنَّ دواعي الاغتراب التي استولت بهذا الشعور على الشعراء ما زالت موجودة كما هي، بل تزيد يومًا بعد يوم.