حاتم الطائي
≥ زيارة بن علوي إلى الصين ترسِّخ لنهج دبلوماسي قوامه تمتين عُرى التعاون مع العالم
≥ الحكمة السياسية اقتضت تقوية العلاقات مع الشرق بدلالاته كمهد للحضارات
≥ لدينا منظومة متكاملة من المقومات تضعنا على درجة من التقارب مع بكين
≥ التاريخ يمنح اقتصادنا الوطني وضعًا استثنائيًّا على "الطريق والحزام"
≥ الملف النووي الإيراني حاضر بقوة انطلاقا من السعي المشترك لبناء سلام إقليمي مستدام
مُفرداتٌ لمرحلة جديدة في مسيرتنا الوطنية، آخذةٌ في التشكُّل وفق مُعطياتٍ وقناعاتٍ راسخة، كُتبت في سجلِ التاريخ باسم السلطنة، ومُنحِت لها بـ"حقوق ملكية" لا يُنازعها فيها أحد.. قبلةُ سلامٍ وبلد الوئام والاتزان، دبلوماسية الحكمة والحياد الإيجابي، والوقوف على مسافة واحدة من الجميع من أجل سلام الجميع، فكسبتْ السلطنة ودَّ واحترامَ العالم، بعلاقاتٍ تخدُم وتحفظُ المصالح المشتركة للشعوب. ولعلَّ زيارةً بتلك الدرجة من الأهمية يقوم بها غدًا معالي يوسف بن علوي بن عبدالله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، إلى جمهورية الصين الشعبية، تعدُّ تدليلًا جديدًا على ترسُّخ هذا النهج القائم على تمتينِ عُرى التعاون مع العالم، واستثمارِ النجاح الدبلوماسيِّ لتتويجه بشراكات إستراتيجيةٍ مع كبرى الاقتصادات والإدارات حول العالم.
وإن كانتْ اللقاءات الدولية المشتركة على عمومها أكثرَ من أن تُحصى -سواءً باستقبالات لوفود خارجية، أو تسيير أخرى عُمانية للعالم- بَيْد أنَّني أرى خصوصية أكبر لزيارة معاليه المقررة ليوميْن، خصوصاً وأنها تعدُّ الأولى من نوعها التي يُعقد بشأنها مؤتمر صحفي لإعلان كافة تفاصيلها وما هو مقرر لأن يُطرح خلالها، فضلاً عن السياق الزمني لها؛ إذ تجيء في وقتٍ تقف فيه السلطنة على أرض صلبة من المقومات الكفيلة بوضعها على درجة أقوى من التقارب مع الصين؛ حيث تُدرك بكين منافع تقوية علاقاتها مع دول المنطقة ككل؛ والسلطنة على وجه التحديد؛ نتيجة للتغيرات الحاصلة اليوم إستراتيجيًّا واقتصاديًّا وتقنيًّا واجتماعيًّا، والتي تُمثل للجمهورية الشعبية فرصًا كبيرة لتعظيم دورها الاقتصادى، بعدما ظل عنوان العلاقات العربية-الصينية مُختَزلًا لسنوات في استيراد مصادر الطاقة، وواردات صينية تغزو الأسواق العربية، مع ضعف في "الاحتكاك" العربى بالصين، رغم ما تمثله الأخيرة من قوة عالمية في شتى المجالات لا يُمكن تجاهلها.
علاقات تاريخية
الوضع في رأيي مُختلف مع السلطنة؛ إذ تحتكمُ العلاقات الثنائية بين عُمان والصين لتاريخ وطيد يربطُ بين الشعبين الصديقين، ورغبة مشتركة لتعزيز منهجية التعاون والتشاور في كلِّ ما من شأنه تطوير آفاق الشراكة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين البلدين؛ ليس فقط باعتبار بكين أكبر مستورد للنفط العُماني، وإنما كشريك اقتصادي وتجاري تاريخي بالغ الأهمية؛ إذ كانت الخطوط البحرية بين الصين وعُمان عبر المحيط الهندي مرورا بالطريق البحري القديم والمعروف آنذاك بطريق الحرير، تتَّخذ نشاطا ملحوظا، واستطاع الصينيون زيارة منطقة الخليج ومعرفة مسالك الطرق نتيجة الخطوط التجارية التي سهَّلها لهم أجدادنا؛ إذ لن ينسى التاريخ شخصية التاجر عبدالله العماني، الذي كان يومًا رئيس الجالية العربية هناك، ومندوبا معتمدا لدى الصين عن مدينة صحار.
جلالة السلطان أطلق عهد الانفتاح الجديد مع الصين باتصالات سياسية رفيعة وعلاقات اقتصادية متميزة
ومع بزوغ فجر النهضة المباركة، في عهد حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم- أيده الله-، شهدت العلاقات مع القيادة الصينية الجديدة ما يُمكن أن نطلق عليه عَهْد الانفتاح الجديد؛ على المستوى الرسمي: اتصالات سياسية وثيقة وتبادل زيارات رفيعة المستوى، يُجرى خلالها التشاور الإستراتيجي بشكل مستقر، في إطار من التفاهم والتبادل الداعم بين الجانبين تجاه العديد من الملفات، وتعاون اقتصادي وتجاري آخذ في التعمُّق والتوسُّع باستمرار (التبادل التجاري بين البلدين 17.50 مليار دولار بنهاية 2017م، ومدينة صينية بالدقم باستثمارات تناهز الـ10 مليارات دولار، ومحطة صلالة المستقلة للكهرباء...وغيرها)، فضلا عن التسهيلات المقدمة من الجانبين، ومنها منح الصينيين حق الحصول على تأشيرة دخول إلكترونية دون اشتراط وجود كفيل.
تعزيز العلاقات مع الشرق
إحدى الدلالات التي تحملها زيارة معالي يوسف بن علوي إلى الصين، تتجلى في الرغبة السياسية الكبيرة والحكمة المتمثلة في تقوية العلاقات مع الشرق، بدلالاته كمَهْدٍ للحضارات، فبينما تنطلق الصين كقوة اقتصادية إقليمية ودولية ضخمة، وذات مصالح متعددة وواسعة، فإن السلطنة تسعى من جانبها لتطوير علاقاتها مع الدول الشقيقة والصديقة، مع إعطاء مزيد من الاهتمام للدول الصديقة في شرق وجنوب وجنوب شرق آسيا؛ ومنها: الصين واليابان وسنغافورة وماليزيا وتايلند وكوريا الجنوبية، وبالطبع الهند وباكستان...وغيرها، خاصة -وكما ذكرت- أننا أصبحنا نملك ما يمكن أن نقدمه لصالح تعزيز وتطوير المصالح المشتركة والمتبادلة، كمركز لوجستي بالغ الأهمية، وكفرص استثمارية واعدة ومتنوعة.. فكما سُيِّرت إلى الشرق القوافل التجارية العُمانية قديمًا، اليوم تتجلَّى آفاق واعدة للتعاون بين السلطنة والشرق من جديد، بدبلوماسية تحتكم للإرث التاريخي، والحرص على إعطاء دفعة كبيرة لتحقيق التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، والإسهام الإيجابي لحل مختلف القضايا والمشكلات في المنطقة وخارجها، بطرق سلمية وحرص أكيد على عدم التدخل في شؤون الغير.
الاقتصاد في المقدمة
مازلتُ مقتنعًا بأن مُعطيات الفترة الراهنة، كما تفرض تضافرًا داخليًّا في الجهود، تشرع في المقابل الأبوابَ أمام حديث عن حاجةٍ ماسةٍ لإحداث تحوُّل في الفكر الإنمائي بالتوجه نحو تمكين الانفتاح الاقتصادي، وتكوين تحالفات اقتصادية دُولية تُعلي سقف الطموح، وتزيد الرساميل والدخول؛ بما يضمن إنجازا سريعا للمشروعات، وفق عَلاقات ثُنائية أو مُتعددة الأطراف.. وهي مُعادلة على عكس الشائع في علم الرياضيات، ذات مُعطى وحيد هو الاتزان الدبلوماسي وكفى، بَيْد أن نتائجها أكثر من أن تُعد: أرضية قوية للحراك المتنامي في منظومة اقتصادنا الوطني، وأسواق جديدة أمام مستثمرينا، ومؤشرات أكثر اخضراراً لحجم الاستثمارات الأجنبية في سوقنا المحلي القابل أساساً للاندماج، واستيعاب دماء جديدة تزيد فاعليته.. وهو المطلوب إثباته!
وفي المؤتمر الصحفي الذي عَقَده سعادة السفير علي بن محمد المهري رئيس قطاع الشؤون الإعلامية بوزارة الخارجية، بشأن زيارة معالي يوسف بن علوي بن عبدالله، كان التأكيد الأبرز على الدور المأمول أن تلعبه الزيارة في دفع التعاون الاقتصادي والتجاري بين الجانبين لتحقيق مزيد من المشاريع المشتركة، وتعميق التعاون مُتعدد الأطراف مع الصين؛ والرغبة المشتركة في تعزيز وتطوير هذا التعاون لزيادة المصالح المشتركة، خاصة في قطاع الاستثمار وإيجاد الشركات الاقتصادية والاستثمارية ضمن مشاريع وخطط التنوع الاقتصادي التي تنتهجها السلطنة.. وهي نقطة غاية في الأهمية، تعكسُ تطوُّر مراحل التفكير الإنمائي خارج الصندوق باستثمار ممكنات جديدة لإيجاد شركات جديدة أو تقوية القائم منها بالفعل؛ لصالح المشاريع المرتبطة بخطط التنويع الاقتصادي في المجالات والقطاعات المتعددة؛ سواء في القطاع اللوجستي، أو التعدين، والصناعة، والسياحة، والاستفادة من عوائدها الاستثمارية.
"طريق واحد.. حزام واحد"
من الطبيعي أن تكون مبادرة "الطريق والحزام" حاضرة وبقوة على مائدة المباحثات، كملف يَطْرَح الكثيرَ من الرؤى المستقبلية للتنمية الاقتصادية ليس في الدول المتموقعة جغرافيًّا عليه، وإنما للعالم أجمع؛ إذ ليست المبادرة مجرد توجُّه لتسهيل وتوسيع حجم التجارة بين الأقاليم والدول المندمِجَة؛ بقدر ما تنطوي على أبعاد إنمائية ومكاسب اقتصادية تُكسبها ميزة الاختلاف عن نمط المبادرات والمشروعات التى طُرحت من قبل.
وكإحدى أبرز الدول التي رحَّبت ودعمت فكرة المبادرة، يُؤمل أن تفتح الزيارة المقرَّرة المجالَ واسعًا أمام استفادة أكبر للسلطنة من هذا التحوُّل المثمر في خريطة التجارة العالمية، كما يُتوقع أن تُثمر المباحثات الثنائية عمَّا يشرع الباب أمامنا أيضًا لمزيد من الفرص، تعزِّز مكانتنا كمركز اقتصادي ولوجستي مهم، ودولةٍ محورية وفاعلة في التجارة الدولية، ومَعْبَرا لحركة التجارة من بلاد التنين الصيني إلى مُختلف دول العالم، خصوصاً وأننا نمتلك مركزًا لوجيستيًّا واعدًا هو الدقم، يُعظم الطريق من دَوْرِه أيضًا؛ إذ سيزيد من عدد السفن المستفيدة من خدماته، خاصة في ظل وجود حوض جاف يُقدِّم خدمات على أعلى مستوى، وهو مناسبة لتجديد الدعوة بسرعة إنجاز خطط تحويله إلى مركز لوجستي متكامل، لضمان رفع مستوى دعمه لمعدلات الدَّخل الوطني. مع العلم بأنَّ خارطة المشروعات المرافقة لإحياء الطريق والعلاقات التاريخية المتجذرة بين السلطنة والصين تضمن لمنظومة اقتصادنا الوطني وضعًا استثنائيًّا في تلك المبادرة الجديدة، والتي سيكون له أثرها في توسيع حجم الاستثمارات الخارجية والمشروعات التجارية المتبادلة مع دول العالم.
الشرق الأوسط المشتعل
جانبٌ إستراتيجي تكتنف ظلاله زيارة معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، فيما يتعلق بمبادرة "طريق واحد.. حزام واحد"، وباعتبارها أيقونة سلام في المنطقة، فإنَّ السلطنة ستكون أمام مهمَّة دبلوماسية أكبر خلال الزيارة لبحث سبل الحد من التوترات الإقليمية، خصوصا وأن المبادرة تعدُّ خطة طويلة الأجل من أجل تعزيز التنمية الاقتصادية، بما يعني تخفيف حِدَّة الفقر والتخلص من البيئة الحاضنة للتطرف وبالتالي تجفيف منابع الإرهاب؛ وتجميع المنظمات والدول المحبَّة للسلام -وعلى رأسها عُمان بكل تأكيد- لتدعيم المصالحة الإقليمية تدريجيًّا عن طريق التنمية، وهو ما سيكون له دور جلي في إنجاح المبادرة؛ ليس باعتبارها آلية تعاون اقتصادي وتجاري فحسب، بل كآلية تبادل ثقافي وحضاري وأمني أيضا. ومع الوضع بالاعتبار عضوية الصين الدائمة في مجلس الأمن الدولي، وإسهامها فيما يتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين، فبالتالي يُمكننا أن نقول بأن "لقاء السلام" الذي سيجمع السلطنة والصين غدًا، يُمكن اعتباره دربًا من التشاور السياسي الإيجابي الحكيم، الساعي لمعالجة المشاكل وحلحلة القضايا، لنزع فتيل التوتر؛ من أجل تحقيق السلام والأمن والاستقرار في المنطقة.
الملف النووي الإيراني
التطوُّرات غير المُحدَّدة على الأقل إلى الآن جراء الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني، والموقف الأوروبي إزاء اعتبار الاتفاق كأن لم يكن والتذرع بدعاوى تدين الجانب الإيراني، يبقى هذا الملف من أولويات مباحثات الزيارة، باعتبار الجانبين بالأساس طرفين فيه: فالسلطنة صاحبة الوساطة لتقريب وجهات النظر بين أطراف الاتفاق في مباحثات استمرت لسنوات، والصين من جهة أخرى شريك طهران الإستراتيجي.. ومن الواضح أن الجانبين العُماني والصيني ينظران للاتفاق برؤية تختلف كثيرًا عن السائد؛ إذ يعتبران التوصل إليه انتصارًا لإرادة السلام، واختراقًا نوعيًا للمواقف الأمريكية المُتشدِّدة التي طالما قرعت طبول الحرب، وروجت إلى أنّ حل الملف النووي الإيراني يمر عبر فوهة البندقية بإيعاز من إسرائيل الخاسر الأكبر من امتلاك إيران التقنية النووية، ثم ما لبثت واشنطن أن أعلنت انسحابها من الاتفاق، وهو ما كان متوقعًا.. لذلك فمن المؤكد أن يَسْعَى اللقاء المشترك لإيجاد نقاط انطلاق جديد تتوافر لها مناخات دبلوماسية أكثر قدرة على الوصول لحلول، وإيجاد مقاربات سياسية تعزِّز أجواء الثقة بالمنطقة، وتُبعِد شبح التوترات.
.. ويبقى أن أقول: إنَّ الأبعاد التي تحملها زيارة معالي يُوسف بن علوي بن عبدالله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية إلى الصين غدًا، مؤكد أنها ستعود بفوائد عديدة وثمار يانعة، تشكِّل استمرارًا لشراكة إستراتيجية تربط بين البلدين الصديقين، وتجسِّد إرادة حقيقية للقيادة في البلدين بأن مسيرة العلاقات بينهما آن لها أنْ تتلقى مزيدا من التمتين خدمةً للمصالح والتطلعات المشتركة، خصوصا وأنَّها تمرُّ بأفضل مراحل ازدهارها، بفضل قناعات شيَّدت جسورَ التعاون بين اثنتين من الدول ذات المكانة المحورية والمؤثرة في المحيط الإقليمي والدولي.