مأزق سوريا.. مأزق للجميع

 

مرتضى بن حسن بن علي

 

 ما زالت الحرب المأساوية موضوعا مثيرا للجدل بسبب تداعياتها المختلفة ووجهات النظر المتعارضة والمتضاربة كليا بين الأطراف المتورطة؛ المعنية الداخلة بعمق في تراكماتها. الحرب الدائرة تخاض بالوكالة على الأرض السورية، تشجعها وتدعمها وتمولها جهات إقليمية ودولية. والذين كانوا يراهنون على سقوط النظام السوري خلال مدة قصيرة اكتشفوا أنهم كانوا يعانون من جرعة مفرطة من التمني. 

الدول الغربية ولأسباب متعددة تصورت أنّ الإطاحة بالنظام السوري ممكن أن تتم بتشديد الضغط عليه عبر تسليح الجماعات المسلحة المختلفة، كما راهنت على انقسامات في صفوف الجيش والمؤيدين للنظام. وواضح لحد الآن أن حساباتها لم تكن دقيقة وأنها أدت إلى نتائج كارثية وأصبحت مأزقا للجميع. ولكن مع ذلك فإنها قررت أنّها إن لم تنتصر فلن تسمح للنظام وداعميه أن يتذوقوا طعم النصر ولذة الاستقرار؛ وعكس ذلك فإنّ التداعيات سوف تكون كبيرة على مخططاتها. في اعتقادها أنّ سوريا صيد ثمين وجائزة كبيرة في إطار تنافسها، رغم كل كلامها الآن عن الحل السلمي أو عدم اشتراطها على إقصاء الرئيس بشار الأسد.

هذه الحرب المجنونة لم تعد أهلية فقط، وإنما هي حرب عربية -عربية، وعربية-دولية، تقع على أرض سوريا، وتقتص ضرائبها من أرواح وثروات شعبه. ويتولى الإعلام العربي والدولي مهمة تلوينها وإضاءتها.

  بعد أن تم تدمير أهم المعاقل العربية ومراكز قوتها فإن الدور الآن على إقليم الهلال الخصيب الذي يتعرض لخطر شديد. والمحاولات مبذولة لخريطة جديدة للمنطقة استعدادا للانسحاب الأمريكي من المنطقة قبل انقضاء الربع الأول من القرن الحالي.  والاستراتيجية العليا في إسرائيل تطلق العنان لتصورات تحوم حول مشاريع قد يستهولها بعضنا ويحسبها عصية على التنفيذ.

والولايات المتحدة تجد نفسها في مأزق. فبعد أن رفضت التدخل العسكري المباشر وأوكلت المهمة إلى أطراف محلية وإقليمية لتقوم حروبا بالوكالة، تجد أن النظام السوري لم يسقط لحد الآن وإنما استرد المبادرة -بمساعدة روسيا وإيران والجهات الحليفة الأخرى-. والآن يبدو أنّها تفتقد إلى استراتيجية متماسكة أو أي تخطيط عمّا يتعيّن القيام به في سوريا، فتارة تجدها تعترف بانتصار الأسد، وتارة تجدها تحاول التخلص منه، وتارة تهدد بالصواريخ وتارة أخرى تدعو إلى عدم وجود حل عسكري للصراع، وتارة تعلن عن سحب قواتها ومن ثم تتراجع وتسير من النقيض إلى النقيض. تريد أن تنسحب ولكنها لا تريد أعداءها أن يشعروا بالانتصار أو أن تعود سوريا إلى ذات النقطة السابقة أو قريبة منها. 

الولايات المتحدة تسلّقت فوق قمة الشجرة ولا تريد النزول منها. وأحيانا ما يكون التشبث بالبقاء على القمة أشد حاجة للعنف من الصعود إليها. وهي تخشى أن يتبدد السلام الأمريكي pax Americana كليا بعد ما تأثر في أماكن عديدة وفِي نفس الوقت لا تريد أن تتحرك قبل الاتفاق على تسديد حساب التكاليف وأكثر. إنها تخشى أن تتعرض قواتها إلى هجمات انتحارية. ما زال شبح بيروت في أكتوبر ١٩٨٣ يطاردها عندما استهدفت شاحنتان مفخختان القوات الأمريكية والفرنسية مؤدية إلى مقتل نحو ٣٠٠ جندي أمريكي وفرنسي. كما ما زالت تتذكر ما حصل عندما أرسلت قواتها إلى الصومال في عملية "إعادة الأمل" عندما تعرضت قواتها إلى كمين نتج عنه مقتل ١٨ جنديا أمريكيا في عام ١٩٩٣ وهاج الرأي العام الامريكي وماج مما أرغم القوات الأمريكية على الانسحاب في ساتر الظلام، تاركة الصومال تواجه مصيرها. إنها تبدو مرتبكة، مقّيدة في مساحة حركتها، عصبية في تصرفاتها حتى الآن كأنها غير واثقة من الأرضيّة التي تقف عليها.

وروسيا وهي دولة انزلقت من فوق القمة، وتحاول استعادة توازنها والعودة إلى دور تعتبر نفسها فيه وريثا للاتحاد السوفيتي. كانت تدرك أنّ سوريا هي آخر قلعة لها، فإن سقطت خسرت الشرق الأوسط، ولكن دروس أفغانستان لا تفارق ذاكرتها. هي تدرك أن الولايات المتحدة تريد إنهاكها اقتصاديا وعسكريا من خلال استنزافها في سوريا ومن خلال العقوبات المختلفة المفروضة عليها. انسحابها قبل اكتمال المهمة سوف يؤثر على هيبتها ونفوذها ليس في المنطقة وإنما في العالم أيضا، كما تدرك أيضا أن سوريا منهكة اقتصاديا والدمار الذي أصابها هائل وأن إعادة إعمارها سوف يتطلب عشرات المليارات من الدولارات ولا سيما إذا لم تشارك الدول الغربية في إعادة إعمارها. إذن روسيا هي الأخرى في مأزق أيضا. فهي قد تمتلك ورقة المساعدة للقضاء على الجماعات المسلحة واسترجاع الأراضي المحتلة منها، ولكنها لا تمتلك ورقة السلام والاستقرار واعادة الإعمار إلا عبر اتفاق شامل مع الولايات المتحدة.

تركيا التي انحازت إلى جانب المطالبين برحيل الأسد وسمحت بتسلل عشرات الألوف من المسلحين إلى سوريا وكانت تراودها أحلام السيطرة على أراضي سورية وأن تلعب دورا مؤثرا في تقرير مصيرها، اكتشفت أن الرياح لا تجري مثلما تشتهيها السفن وترى صعوبة لإيجاد توازن بين الولايات المتحدة وروسيا كما تعاني من اشتداد شوكة الأكراد لإقامة دولة لهم في سوريا التي قد تشجع الأكراد في تركيا بتشديد مطالبهم حول قيام كيان كردي في تركيا وهي في صراع مع القوى الكردية في سوريا والمدعومة أمريكيا كما تعاني من الإرهاب داخل أراضيها. تعرضت لضغوطات أمريكية بعدم التقدم نحو مدينة منبج التي تحتلها مجموعات كردية وهي تعيد الحسابات التكلفة العسكرية والسياسية حال سعيها لانتزاع منبج من مقاتلي "قسد" وتعاني من صعوبات للتقدم أكثر في شمال سوريا.

إيران هي الأخرى تواجه مصاعب اقتصادية ومالية كبيرة نتيجة أسباب متراكمة منذ الحرب العراقية الإيرانية والمقاطعة القاسية التي تعرضت لها والتي قد تزداد إذا قرر الرئيس ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي أو إذا بدأ الغرب بمساومتها على الصواريخ. الأنباء تتحدث عن مطالبات بانسحاب إيران من قضايا المنطقة والتركيز على شأنها الداخلي والخلافات قد تكون مرشحة بالصعود ويزداد الصراع الاجتماعي وخاصة نتيجة التحول الكبير الذي تشهده إيران من حيث الارتفاع الكبير في عدد سكانها وضرورة توفير فرص العمل لهم وحيث تصبح الحالة الدينية تدريجياً جزءًا من الماضي وظهور جيل جديد يتبنى الفكر القومي الحداثي أكثر من الديني.

هي تدرك أيضا أن أي إخلال كبير في معادلة الصراع في سوريا سوف يؤثر على معادلة الصراع بينها وبين المعسكر المناوئ لها.

وحزب الله والحركات المتعاونة معه أيضا يشعرون بنوع من القلق - إزاء أي تغيير في سوريا سوف يؤثر عليها. كانت دمشق -لاعتبارات جغرافية وقومية-حلقة التواصل والارتباط الرئيسيّة بين محور المقاومة والجهات الداعمة لها في لبنان وفلسطين اللتين تلاقت مصالحها وتوجهاتها مع سوريا وإيران. وأي تغيير في سوريا سيلقي بآثاره وتبعاته على مجرى الصراع وتحس في إمكانية خنق حزب الله في لبنان سياسيا ولوجستيا والتأثير في مواقف في مواقف القوى الفلسطينية المعارضة.

إسرائيل أيضا في مأزق وهي تراقب الموقف وترى أن رهاناتها على إسقاط النظام السوري بدأت تهتز، وتخشى أن تضطر الولايات المتحدة بالقبول على بقاء النظام في سوريا على حاله من دون تغييرات كبيرة وأن تبقى دمشق حلقة الوصل والتواصل بين طهران وعدد من أهم حلفائها في المنطقة. إسرائيل كانت تأمل وما زالت أن تتحول سوريا إلى ثمة دويلات، أو كيانات صغيرة متصارعة وعن مساحات خالية من القوة في جهة الشرق التي قد تهددها. غير أنها قد تكون من جهة أخرى الدولة الوحيدة المستفيدة لأن سوريا سوف تبقى لفترة طويلة مشغولة في إيجاد حلول للمشاكل المتراكمة وإعادة بناء ما دمرته الحرب وإعادة بناء نسيجها الاجتماعي.  

هذه الحرب من نوع جديد تستغني بالكامل عن كل ما عرفه تاريخ الصراع من أشكال الحروب. إنها حرب مستغنية عن جبهة قتال محدودة تنطلق أو تتوقف عليها النيران. إنها حرب لا يستولي المنتصر فيها على جغرافيا وموارد فقط وإنما يستولي على تاريخ. هذه حرب ليس للمتصارعين وقت لمراعات "عقد" التاريخ أو التردد على تعقيدات سياسية.

العرب كلهم في مأزق. فهل تتمكن هذه الحرب وكل المأسي التي مرت بِنَا وأفقدتنا وعينا ورشدنا وتمكنت من إعادة إنتاج الفتنة التاريخية بين المسلمين وإثقال الخلافات العقيمة بينهم، هل تقدر أن تعيدنا إلى وعينا ورشدنا؛ خاصة أننا إمام مستقبل أكثر من غائم وقد يؤدي إلى الطوفان؟

appleorangeali@gmail.com