علي بن كفيتان بيت سعيد
في أتون الأحداث صغرت أم كبرت تكون هناك صعوبة بالغة في إيجاد قراءات متأنية وعقلانية لمجرياتها أثناء حدوثها كون العواطف تمتلك زمام المبادرة، وتكون المواقف لم تنضج بعد، وبناء على ذلك تصبح القراءة المتأنية للأحداث بعد وقوعها ذات أهمية عالية لمعرفة الدوافع التي قادت لتحريك المواقف بالإضافة للتنبؤ بما هو قادم والبحث عن حلول واقعية.
من هذا المنطلق يمكننا الحديث عن دوافع الاصطفافات المجتمعية بشكل متجرد دون الخوض في تفاصيل المكونات الاجتماعية وماهيتها فمثلاً في محافظة ظفار ظهرت الحاجة في بداية النهضة المباركة لإعطاء القبيلة مساحة أكبر للمساهمة في حفظ الوحدة الوطنية، ولا شك أنها قامت بأدوار جليلة في ترسيخ الأمن والاستقرار في تلك الحقبة الصعبة، وما بعد النصر منحت كل المكونات مساحة حرة للتعبير عن اعتزازها وفخرها وولائها عبر ما يعرف بالهبايب التي تنظم وقت الأعياد ويرعاها المقام السامي - حفظه الله ورعاه - ومن ثمّ توقفت تلك الاحتفالية السنوية التي تتم في قصر الحصن العامر نتيجة لتغير ظروف المرحلة. وكانت عودتها للواجهة في منتصف تسعينيات القرن الماضي ولكن بشكل مختلف حيث وجدت في انتخابات مجلس الشورى فرصة واستطاعت أن تملأ فراغ مؤسسات المجتمع المدني فازدهرت تحالفات وتكتلات قامت بفرض خياراتها من جديد على الوضع الاجتماعي. ومهما كانت الشعارات التي ينادي بها كل طرف فجميعها خلت من نية النفع العام وتجسد الجانب الاعتباري الشكلي للهيمنة وانجر لهذا المشهد رجال دولة سابقون ولاحقون وتجار وشخصيات عامة وكل يبحث عن ضالته في ذلك الرداء القديم الجديد.
وفي هذا السياق الذي فرض نفسه بقوة في ظفار ربما لدينا الحق أن نطرح بعض التساؤلات المشروعة التي نراها في غاية الأهمية وللجهة المختصة حق الرد، فمثلاً لماذا ولاية صلالة ليس بها والٍ؟ كمثل بقية الولايات رغم أنّها حاضرة الجنوب وتتبع لها إدارياً خمس نيابات وعدة جيوب غير معرفة إدارياً. فهذه الولاية لا تشارك رسمياً في الملتقيات الشعبية التي تنظم على هامش المهرجانات الخارجية والداخلية رغم احتوائها على موروث أصيل وسكانها يمثلون الأغلبية الساحقة لمحافظة ظفار وهم تواقون لإبراز مكتسباتهم وفنونهم وتراثهم الشعبي وولائهم لوطنهم ولجلالة السلطان المعظم- حفظه الله ورعاه- بينما يتم اختصار ذلك الموروث في فرق شعبية لا تمثل بالضرورة كامل الطيف الاجتماعي وبضع نفر يرددون ألحان النانا إلى جانب كوخ قديم وحظيرة مواشٍ، ولم تتبق إلا نافذة واحدة في الولاية وهي هبوت عيد الأضحى التي يحييها أبناء المدن الذين تحملوا ذلك العبء منفردين طوال السنوات الماضية. ولا نقول إلا جزاهم الله عنا كل خير على تمسكهم واستمرارهم في إحياء هذا الموروث الأصيل. هذه مجرد أمثلة بسيطة على محدودية هامش التعبير عن الهوية والمورث الشعبي بولاية صلالة تحت تأويلات غير مقنعة لا نريد الخوض فيها بهذا المقال.
تكمن حنكة الإدارة المحلية الواعية في فن التعامل مع جميع أطياف المجتمع ولقد برع المحافظون ونوابهم في هذه المهارة فسياسة فتح الأبواب للمشايخ، وأصحاب الحاجات تعمل على توطيد الرضا المجتمعي للسلطة وبغض النظر حصل المواطن على مطالبه أم لا فإن مقابلة المحافظ أو نائب المحافظ أو رئيس البلدية تمنح مساحة كبيرة من الثقة بين الشيوخ والوجهاء والأعيان وحتى عامة الناس في المكونات الاجتماعية المختلفة وبين الإدارة المحلية في ظل محدودية الصلاحيات الممنوحة للولاة ونوابهم في المحافظة. ولعل المتتبع كذلك يتساءل لماذا لم يعين نائب للمحافظ لفترة قاربت الأربع سنوات؟ فهذا المنصب التنفيذي الهام يعمل من يشغله على امتصاص الكثير من الضغوط المجتمعية ويسهل أمور المواطنين، ومع خالص تقديرنا لأي تكليف يتم في هذا الشأن إلا أن أهمية المحافظة ووزنها الاجتماعي والسياسي يحتم عدم شغور مثل هذا المنصب لفترات طويلة.
كان لنا مقال سابق حول مقترح لتأسيس نادٍ رياضي ثقافي اجتماعي في ريف صلالة فالأندية تمتص الطاقات الكامنة في المجتمع وتفتح مجال لتطوير المهارات بالإضافة لكونها تمثل المظلة الشرعية لأي نشاط يرغب في إقامته المنتمون إليه وفق آلية قانونية يعلمها الجميع، كما أنّها تعمل على صهر مختلف أفراد المجتمع مهما كانت انتماءاتهم تحت مظلة واحدة بحيث يصبح الولاء جمعيًّا نفعيًّا بالدرجة الأولى، ولقد رأينا ذلك جلياً في احتفالات أندية ولاية صلالة وغيرها من أندية المحافظة عام 2015 عند عودة جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- من رحلته العلاجية، بينما ظل أبناء الريف والبادية يبحثون عن ساحة عامة للتعبير عن فرحتهم وولائهم لجلالة السلطان دون منغصات؛ فمنهم من احتفل ومنهم من اكتفى بالمشاهدة الصامتة رغم الشعور بعدم الرضا.
حفظ الله عُمان وحفظ سيّدها وقائدها...........
..........................................................................................................................................
الهبايب: جمع هبوت وهو فن غنائي يؤديه الرجال بشكل جماعي في محافظة ظفار.