المال.. مقابل الحماية

 

زاهر بن حارث المحروقي

في التسعينيات من القرن الماضي، شاع كثيرا مصطلح "النفط مقابل الغذاء"، الذي كان عبارةً عن قرار صدر عام 1995، من مجلس الأمن الدولي يسمح للعراق بتصدير جزء محدد من نفطه، ليستفيد من عائداته في شراء الاحتياجات الإنسانية لشعبه، تحت إشراف الأمم المتحدة.

ويبدو الآن أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قد صكّ شعارًا آخر، ما انفك يردِّده في كلِّ مناسبة، وهو "المال مقابل الحماية والبقاء"، دون أن يأخذ في حسبانه الإحراج الذي يسبّبه لحلفائه ممّن يدفعون مقابل تلك الحماية وذلك البقاء. والفرقُ بين شعارَي "النفط مقابل الغذاء" و"المال مقابل الحماية" كبير جدًا، إذ أنّ الأول كان هدفه – حسب المُعلن - توفير الغذاء والمستلزمات الأساسية للشعب العراقي، من أمواله وتحت إشراف الأمم المتحدة؛ أمّا الثاني فهدفه إهانة حلفاء أمريكا أمام شعوبهم قبل غيرهم؛ وهي الإهانة التي ستظهر نتائجها حتمًا حتى ولو بعد حين. فماذا يعني أن يردِّد الرئيس الأمريكي أنّ قادة الدول الخليجية باقون بفضل أمريكا، وأنّ عليهم أن يدفعوا الأموال مقابل تلك الحماية. وماذا يعني أن يردِّد أنّ أمريكا "دفعت سبعة تريليونات دولار، خلال ثمانية عشر عامًا في الشرق الأوسط، وعلى الدول الثرية دفع مقابل ذلك"؟ ثم هل هناك إهانة أكبر من أن يتبجّح الرئيس الأمريكي يوم الثلاثاء 24 أبريل 2018 وبجانبه نظيره الفرنسي بالقول إنّ "هناك دول لن تبقى لأسبوع واحد دون حمايتنا. عليهم دفع ثمن ذلك" قاصدًا بذلك - كما حلل كثيرون، وكما لا يخفى على لبيب - الدول الخليجية.

لا أناقش هنا مدى صدقية كلام ترامب حول هذا السقوط لبعض الدول إذا تخلت عنها أمريكا؛ فهذا أمرٌ متروكٌ للقارئ حسب رأيه وثقافته ومدى تقبله لتلك الفكرة؛ إلا أنني أود الإشارة هنا إلى أنّ السياسة الأمريكية تجاه حلفائها في كلِّ زمان ومكان في الأرض هي مبنيةٌ على تحقيق مصالحها فقط؛ وعندما تنتفي المصلحة فإنّ ديدن أمريكا أن تضحِّي بعملائها، وترميهم في سلة القمامة، مثل ورقة محارم انتهى استعمالها؛ والأمثلة في ذلك كثيرة جدًا، تحتاج إلى كتاب من الحجم الكبير، إذ أنّ مقالا واحدا لا يكفي؛ إلا أنّ ما ميّز الرئيس ترامب أنه انتقل من العمل بسياسة استغلال الحلفاء من السرية إلى العلن، وتعامل معهم حسب الحقيقة التي يؤمن بها هو؛ وهي أنّهم مجرّد أتباع، وعليهم أن يدفعوا مقابل الحماية والبقاء؛ وأنّ بلاده لا يمكن أن تستمر في التضحية من مالها ورجالها في سبيل أناس آخرين.

وفي الواقع إنّ ما يصرح به ترامب في مقابلاته الصحفية أو تصريحاته الرسمية أو عبر التغريدات التي ينشرها، حول استغلال أموال الدول الخليجية، ليس جديدًا ووليد فترة رئاسته لأمريكا؛ وإنما هو فكر ثابت ومعتقد متجذر في تفكيره، قبل ثلاثين عامًا من رئاسته لأمريكا. وقد رأينا كيف أنه في مقابلة تلفزيونية قديمة مع الإعلامية أوبرا وينفري عام 1988، قال إنّ بلاده توفر الحماية لدول كثيرة مثل الكويت فيما يعيش فقراء الكويتيين كالملوك، وفي المقابل فإنّ أمريكا لا تحصل على شيء؛ ووصف عدم أخذ 25% من الناتج المحلي من الكويت مقابل ذلك بالمزحة. وأوضح ترامب أنه في حال أقدم في يومٍ من الأيام على ترشيح نفسه للانتخابات فإنه سيفوز، "وفي حال فزتُ أعدُكم بأنني سأحصل على الكثير من الأموال من هذه الدول التي أخذت منّا الأفضلية، لمدة خمسة وعشرين عامًا مضت". وإذا كان في تلك المقابلة قد أشار إلى الكويت بالاسم، فإنّه في فترة حملتِه الانتخابية وبعد فوزه بالرئاسة الأمريكية، سمّى بعض الدول الخليجية بالاسم، لدرجة أن يقول "إن ما نأخذه منكم يُعتبر فتاتا".

إنّ سياسة ترامب قائمةٌ على الدفع مقابل الحماية والبقاء، ولعل تصريحه حول بقاء القوات الأمريكية في سوريا كان واضحًا؛ إذ قال صراحةً إنّ "السعودية مهتمة جدًا بقرارنا، حول سحب القوات الأمريكية من سوريا؛ حسنًا، إذا كانت الرياض ترغب ببقائنا في سوريا، فيجب عليها دفع تكاليف ذلك". والمعنى واضحٌ هو أننا مستعدون لمقاتلة سوريا أو أيّ دولة أخرى مقابل الدفع، وإلا فتولوا أمر القتال بينكم بأنفسكم؛ وهذا أصبح واقعًا مقلقًا، عندما تكون الدولة العظمى مستعدة أن تقدِّم خدماتها العسكرية، التي هي أقرب إلى "البلطجة" مقابل المال، وكأنّ أمريكا - بنظامها ومؤسساتها - أصبحت مجرد شركة "بلاك ووتر" كبرى سيئة السمعة.

سيظلّ الرئيس ترامب نموذجًا فريدًا وغريبًا بين رؤساء الولايات المتحدة؛ فقد جمع بين الوقاحة، والجرأة، والابتزاز، وإحراج حلفاء بلاده؛ إلا أنه أثبت أنه رجلٌ استطاع أن يفي بوعوده الانتخابية، ويوفِّر لأمريكا المليارات بالقوة والبلطجة، والدافعون يدفعون وهم يبتسمون؛ وهو ما فشل فيه مع كوريا واليابان والصين وغيرها. والتنازلُ عادةً يغري بتنازلات أخرى. ويبقى أنّ الشرعية في أيِّ مكان لا تُستمد من أمريكا ولا من الخارج؛ وإنما من الداخل. وعندما يكون الداخل قويّا متماسكا، فهذا وحده هو الحماية الأكيدة من أيّ هزة.

ستبقى دول المنطقة "بقرة حلوباً" لأمريكا على حساب الشعوب، طالما ظلت على ما هي عليه من العداوة والتشتت والاقتتال والحصار والتآمر ضد بعضها البعض؛ والأحداثُ أكدت أنّ الحوار هو السبيل الوحيد للاتفاق حتى تكون هناك جبهة وطنية موحدة ضد الأطماع الخارجية، أما الوضع الحالي فإنه ينذر بعواقب سيئة لهذه الدول على المستويين الداخلي والجماعي.