د. عبدالله باحجاج
حطّت مسيرة جلسات مشاركة محافظات البلاد في مناقشات رؤية عمان 2040 في محافظة ظفار؛ وهي مسيرة تستطلع آراء المجتمعات المحلية من منظورين هامين، يطرحان على المستهدفين وفق التساؤلين التاليين: كيف ترون السلطنة في عام 2040؟ وكيف ترون محافظاتكم عام 2040؟ والتساؤلان في حد ذاتهما يعبران عن وعي سياسي رفيع، يعتد بخصوصيات كل مجتمع محلي في إطار تحدياته الجغرافية والديموغرافية من جهة، ويفتح السفر الذهني للمدى الزمني الطويل الأجل لرؤية الوطن الجامع والشامل للتعدد والتنوع من جهة ثانية.
وهذا يتوقف على مستوى المشاركات في هذه الجلسات؛ خاصة الورش منها، فهل وجهت الدعوات للفاعلين في القطاعات الحكومية والخاصة والمدنية أم جاءت الدعوات على نفس السياقات التقليدية للدعوات التي يوجهها مكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار أثناء مختلف المناسبات؟ والتساؤل لا نطرحه على محطة ظفار فقط، وإنّما هو مطروح في كل محطات الرؤية المناطقية السابقة، ونخص محافظة ظفار على سبيل المثال لعلمنا بأنّه لم يتم توجيه الدعوات المكتوبة ولا الهاتفيّة لبعض الفاعلين المهتمين بالشأن العام، ومع ذلك لن نقلل من أهميّة هذه المناقشات، فقد نقل إلينا أنّها كانت صريحة وشفافة؛ خاصة الجلسة العامة، ونقترح على الجلسات المقبلة في محافظات أخرى من البلاد أن تستدعي سلطاتها المحلية فاعليها المحليين خاصة ممن لهم رؤى مختلفة، وأن يكون هناك حضور ملموس في ورشها، وانتقاء أصحاب الرؤي المختلفة، لأن ذلك سيصب في متانة وحصانة الرؤية.
لم نجد فرصتنا الوطنية سابقا ولا المحلية حاليا في المشاركة في مثل هذه النقاشات الوطنية، لذلك، ستظل نافذتنا هنا في ممارسة حقنا في المساهمة والمشاركة الوطنية، لذا نرى هذه الجلسات لابد أن يكون لها من محددات ومنطلقات حاكمة لها حتى لا تتوه في صحراء السفر الطويلة، فالقضية هنا لا تتعلق بطريق ولا عمارة ولا مدرسة. وإنّما برؤية عمان لعشرين سنة مقبلة، وهذه الرؤية تنطلق الآن من تحول استراتيجي في دور الدولة من دور رعائي إلى دور جبائي مع إعادة هيكلة الاقتصاد العماني عبر تنويع مصادر دخله وعدم اعتماده على النفط والغاز حتى لو ارتفعت أسعار النفط إلى عنان السماء. إذن، كيف ينبغي أن نرى مستقبل بلادنا في عصر الضرائب والرسوم؟ وكيف للرؤية 2040 أن تستوعب الطابع الشبابي للمجتمع العماني؟ هذه الأرضية التي ينبغي أن ينطلق منها سفرنا نحو المستقبل، وهما يعكسان مسألتان ثابتتان هما، حتمية تاريخية، وهي التحول في دور الدولة، وأداة تنفيذها رؤية 2040، والأخرى واقع ينبغي الاعتداد به في التحول، وهو أنّ غالبية مجتمعنا من فئة الشباب، وأنه أي الشباب، يقطنون محتوى جغرافيا متباين التحديات، ومتعدد الإكراهات، فليس التحديات الاقتصادية والديموغرافية والأمنية في محافظة ظفار هي نفسها في محافظات أخرى كالظاهرة ومسندم والبريمي وشمال الباطنية... إلخ، فكيف ينبغي أن نعمل على تأمين حقوق هذا الجيل واستيعاب تطلعاته ضمن دور الدولة الجديد؟
وهاتان المتلازمتان، تجعلاننا نطلق مجموعة أحلام، ما دام الحديث هنا عن المستقبل، طبعا غير الحلم المالي والحلم الاقتصادي اللذين تضمنتهما رؤية 2040، مثل حلم الإصلاحات الإدارية الضرورية لمواكبة مثل تلكم التحولات البنيوية في دور الدولة، فهذا التحول يحتم بالمقابل مجموعة تحولات متزامنة وبصورة تلقائية، إن أردنا الحفاظ على المحددات الضامنة لديمومة الولاء والانتماء، فهما سينتقلان في الرؤية الجديد- ومؤشراته قد بدأت منذ منتصف عام 2014- من طور الضمانة الفوقية في مرحلة الدولة الرعائية إلى طور الضمانة الأفقية في الدولة الجبائية. وفي هذه الجزئية النافذة على وجه التحديد ينكشف الحلم على المستويين الوطني والإقليمي على السواء، وهو يتجلى على المنظور الإقليمي إقامة إدارة اقتصادية خالصة تتولى مسؤولية استغلال المقومات الاقتصادية والسياحية، تتمتع بصلاحيات واسعة وتكون رفيعة المستوى، وتعمل في إطار الرؤية الوطنية العامة واستراتيجياتها المتوسطة الأجل، وسياساتها القصيرة، وهذا النهج ينبغي أن تتمتع به كل محافظة من محافظات البلاد لها ثقل اقصادي ومقومات متعددة، ويستصعب إدارتها مركزيا، بدليل ما تتمتع بها محافظة ظفار من مقومات اقتصادية وسياحية لم تستغل الاستغلال الذي تنعكس آثاره على المجتمع واقتصادنا الوطني، فهناك الموانئ المطلة على البحار المفتوحة التي تغري القوى الاقتصادية القديمة والجديدة والواعدة، وكل شواطئها صالحة لخدمة التجارة عابرة القارات، وهناك المناطق الحرة كصلالة والمزيونة والميناء الجوي والمقوّمات السياحيّة التي يمكن أن تجتذب السياحية العائلية. فكيف لو استغلت اقتصاديا؟ ولن تستغل اقتصاديا إلا عبر وجود إدارة اقتصادية متخصصة ومتفرغة، تدير ببراغماتية مقوماتها الاقتصادية مما سيتيح لجيل شبابنا فرص عمل تلقائية ناجمة عن مثل هذه التحولات، ولن ننسى إطلالة هذا الجزء من وطننا على أسواق إقليمية كبيرة، تتطلع للتعامل مع بلادنا الآمنة والمطمئنة.
ومن المنظور الوطني، حتمية الرؤية، والتحوّل في دور الدولة، يقتضيان ضرورة تحديث الجهاز الإداري للدولة، وتطوير الحكم المحلي بصورة شاملة، وإضافة نقلة نوعيّة وكميّة لدولة المؤسسات والقانون عبر تغليب منظومة المواطنة القائمة على جناحي الحق والواجب، وهذه خيارات عقلانية لم تكن ضمن رؤية 2040 ولا برنامجها التنفيذي - وفق ما اطلعنا عليه من الصحف - وهنا ستظهر لنا إشكالية كبيرة في رابطة الولاء والانتماء في ظل التحوّل في دور الدولة، إذا لم نصهرها ضمن مؤسسات الدولة الدستورية والقانونية، وهذا الانصهار هو الخطوة الذكيّة التي تستلزم إعمال الفكر في استدعائها من خلال جلسات العصف المجتمعية، فهي مفقودة في الرؤية وفي برنامج تنفيذ- نكرر- فلا يمكن أن ننقل الاقتصاد والمجتمع دون أن يواكبها نقلة إصلاحية إدارية وسياسية وديموقراطية مماثلة، تتناغم وتنسجم مع الرؤية الاستراتيجية لبلادنا.
عندها لن يكون حلمنا المستقبلي شاملا، وسيكون مشهده كالآتي: استقرار مالي للدولة من خلال منظومة الضرائب والرسوم الجبائية، ومتاعب اجتماعية نتيجة تداعيات ثقل الضرائب، من هنا تظهر لنا مشاركة المجتمع للحكومة وسلطاتها المحلية في اتخاذ القرارات الضريبية والسياسات المالية، عبر مجلس الشورى والمجالس البلدية، ضمانة لتوفر الإجماع الوطني، وبالتالي تخفيف حدة التداعيات، لأنّ هذه المشاركة سينجم عنها اختيار ما يصلح لكل مرحلة من أوعية ضريبية مناسبة ومن تحديد خيارات التنمية الوطنية والإقليمية بتحدياتها الجيوسياسية، ومعرفة مدى قدرة المجتمع في تحملها، ودون ذلك، فلن يستقيم الذهاب نحو الدولة الجبائية في ظل استمرار اتخاذ الحكومة وسلطاتها المحلية للقرارات التي تمس معيشة المجتمع دون مشاركة هذا المجتمع.
ومن القضايا الغائبة أو المغيبة عن تنفيذ "رؤية 2040"، عدم الاهتمام بالتحول الإلكتروني رغم توجهات مجلس الوزراء الصريحة، والذي ينبغي أن يتصدر أولويات التنفيذ، لأنّه يشكل ضرورة التحولات، ووسيلة لكسب الرضا المجتمعي، فهندسة الإجراءات وتنظيمها وشفافيتها، تحد من الفساد، وتجعل المواطنين يطّلعون على المعلومات الحكومية بشفافيّة، وهو ما تحتمه مرحلة التحولات الاقتصادية نفسها بشكل متواز مع تغليب المواطنة العادلة والمتساوية في الحقوق والواجبات.
هكذا نرى ما ينبغي أن تكون عليه بلادنا عام 2040، ببعديها الوطني والإقليمي، والظروف كلها مهيأة لها، المادية والمعنوية والسيكولوجيات الاجتماعية، ولن نبالغ إذا ما قلنا أنها حصرية على بلادنا دون دول محيطها الإقليمي، وبالتالي، فإنّ أحلام "رؤية 2040"، ينبغي أن تكون شاملة، ولا تقتصر على الاقتصاد والمجتمع فقط، ولا يقتصر التحديث والإصلاح على المركز وإنما الحكم المحلي الذي له نفس الأهمية. وهذه الشمولية ينبغي أن تكون في إطار دولة الحق مما يستلزم تحديث ما أنجزناه من خطوات متقدمة في دولة المؤسسات والقانون، ودولة الحق هي النقلة التي سترضي الفرد والجماعات في مرحلة دولة الجباية، شريطة أن تكون مبرمجة زمنيا ضمن سنوات الرؤية على أن يلمس المجتمع رسائلها من خلال الممارسات والتطبيقات لا التنظيرات، وإلا ستظل الرؤية الجديدة كسابقة الرؤية التي ستنتهي بحلول 2020، مجرد أحلام دغدغنا بها المشاعر، واكتشفنا حقيقتها إبّان الأزمة النفطية في منتصف عام 2014.