القبيلة ليست وطنا والوطن ليس قبيلة

 

د. سيف بن ناصر المعمري

صدمَنا بعض الكُتاب خلال الأسبوع الماضي باختزال الوطن ووصفه بأنَّه قبيلة؛ حيث كانوا يعبرون عن رأيهم في التعبئة التي جرت لتجمع بعض القبائل العمانية مؤخرًا، وهي ليست التعبئة الأولى فقد سبقتها عدة حالات ربما شكلت المثال الذي قاد إلى فتح هذا الباب المُقفل، وأعادت إلى السطح النزعات القبلية التي لم تتوقف لكن تمَّ كبح جماحها بفضل سياسة الاستيعاب الحكومية.

ومن المؤسف أن هذه الشرارات الأولى قد قام بها بعض كبار المسؤولين السابقين، وأكد على "شرعيتها" ولبى نداءها البعض؛ حيث نصبوا الخيام وصفوا أفراد قبائلهم في صفوف طويلة من اليمين والشمال لاستقبال أفراد قبائل أخرى، ووزعوا أسلحة على الحضور ومئات الطلقات ليُطلقوها في الهواء، كما ذبحوا الجمال والأبقار وزينوا بها عشرات الصحون الكبيرة، وأجزلوا العطاء للشعراء لكي يعلوا من مناقب القبيلة ويفاخروا بفضلها وأصلها على العالمين ووثقوا كل ذلك وبثوه في أفلام عبر شبكات التواصل الاجتماعي، فأشعلوا به عصبية قبلية نائمة، ودفعوا ببقية القبائل إلى استنفار اتباعها ليستعرضوا عديدهم وعدتهم وفضلهم!! وأعادوا المواطنين مرة أخرى إلى "حظيرة القبيلة" بعد أن كانوا يمضون بثقة إلى فضاء الوطن، ويكتشفون شيئاً فشيئاً قيمة المواطنة والوحدة الوطنية.

كل هذا كان يحدث في مجتمع قبلي في عصر سابق.. ولقد عملت الدولة عبر ما يقرب من خمسة عقود على توحيده في إطار مُجتمع واحد وجماعة وطنية واحدة.. وأغدقت على رؤسائه الهبات والأموال والوظائف الرفيعة، من أجل استيعابهم في ظل النهضة المباركة والمشاريع التنموية.. فلماذا يعمل بعض هؤلاء على إثارة النعرة القبيلة بعد أن وصلت الدولة إلى هذه المرحلة من التنظيم؟ ولماذا يسعون للعودة إلى الماضي بعد أن تم توحيد الوطن تحت لولاء واحد؟ وهل لا تزال القبيلة هي صمام أمان يُمكن أن يعول عليه في مواجهة التحديات في المنطقة؟ أم أنها مصدر إثارة للعصبيات القبيلة وغيرها من النعرات؟

لا شك أنَّ المنظور الأكثر سيطرة على العقل السياسي في المنطقة هو أن القبيلة هي صمام أمان سياسي، وعلى هذا الأساس تم استيعاب القبائل في كثير من المناصب، وفي اللجان المختلفة التي كانت تشكل في الولايات لحل الإشكاليات.

وبعد كل هذا التمكين والرخاء ستكون هذه القبائل الأكثر حرصًا على الوحدة الوطنية وعلى إغلاق النوافذ التي يمكن أن تدخل منها أية نعرات قبلية، فبحجم العطاء يكون الولاء، ولا يمكن لأحد أن يجادل في قيمة هذا العطاء، وربما من هنا تأثر بعض الكتاب ووصفوا الوطن بالقبيلة والمُواطنين برعيتها فقلبوا المصطلحات وكيفوها لتتلاءم مع مقاس القبيلة، لا مع مقاس الوطن، فأساؤوا ربما بدون قصد إلينا جميعا، من حيث لا يدرون، فنحن مواطنون في دولة ولسنا أفرادا في قبيلة، ونحن تجمعنا رابطة أكبر وأكثر تحديداً هي رابطة المواطنة، ولا تجمعنا رابطة- مهما كانت مهمة إلا أنها أقل تحديدا- وهي القبيلة، فالقبيلة لا يمكن أن تصعد إلى مستوى الوطن، والوطن لا يُمكن أن ينزل إلى مستوى القبيلة.

لماذا حدث ما حدث وتابعه الجميع عبر الشبكات وكان موضع جدل واختلاف بين مؤيدين ومعارضين؟ ولم يحاول البعض تعزيز النزاعات الارتدادية إلى الانتماءات القبلية؟ ولماذا يقدمون استراتيجيات ليس لها هدف وطني إنما ذات أبعاد فئوية، فالمال يُدفع بأشكاله المختلفة ليس للمؤسسات الرسمية المعنية إنما يدفع ويستثمر داخلياً لصالح القبيلة، مما يضعف الرابطة مع جماعة المواطنين والمؤسسات التي تعمل على رعايتها، فأين هو الحرص على واجب المواطنة؟

والمواطنة هي شعور بالانتماء يدفع الناس إلى مؤسسات أكبر هي مؤسسات الدولة، والتعاون مع بقية المواطنين في تنفيذ مشروعات عامة لا فئوية، ولحل مشكلات الجميع في حالة توفر الإمكانات بدلاً من حل مشكلة الفئات التي ينتمي لها الفرد.. إذن أي معنى يصبح للمجتمع إذا كان أفراده سوف يتخندقون مع أفراد قبيلتهم، وهنا تكمن الخطورة التي تحاول بعض الدول توظيف القبيلة فيها كورقة سياسية، وقد حصل ذلك في الأزمة الخليجية الأخيرة.. ولا تزال النعرة القبيلة توظف من أجل أهداف سلبية بمنظومة مؤسسات الدولة، فعلى غير المدركين أن يتبصروا وعلى غير المسؤولين أن يعودوا إلى رشدهم ويتأملوا في مواقفهم، فالقبيلة اليوم لا يُمكن أن تكتفي بذاتها وتنصب نفسها حزباً يتبنى مواقف ضغط على المؤسسات الرسمية.

لا شك أن صمام الأمان لأي دولة هو تعزيز النزعة المدنية وإتاحة الفرصة لقيام الجمعيات المعبرة عنها، والتي يجتمع فيها أبناء البلد، لا استجابة لدعوة قبيلة، وإنما استجابة لحاجة وطنية يعملون على تلبيتها جميعًا، بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية، ويطبقون لتنفيذها الأساليب المؤسساتية والقانونية بدلاً من التعويل على العصبية للقبيلة. لابد إذن من مراجعة للبيئة التشريعية التي تسمح بازدهار القبيلة لكنها لا تسمح بازدهار المدنية، ولابد من تعزيز البعد الوطني والمدني في مؤسسات التعليم المختلفة، لأنه يبدو هناك تنازع على هذا الجيل بين القبيلة والدولة ولابد أن تكسب الدولة هذا التنازع وتعزز الانتماء الوطني لها، وحين يتعزز ذلك سيتكفل هؤلاء برفض أي نزاعات تأتيهم من أي مصدر كان.