الانتخابات اللبنانية والبرغماتية الحزبية

حمد بن سالم العلوي

لقد ظللت في حيرة حتى سويعات قليلة تسبق إرسال مقالة الأسبوع إلى الجريدة، فهناك مواضيع عدة كانت تدور في مخيلتي للكتابة عنها، بعضها محلي والآخر عربي ودولي، ولكن أثارني موضوع الانتخابات اللبنانية، وما يكتنفها من غموض في المواقف الحزبية، فقررت أن أكتب عن الانتخابات اللبنانية لأنّها مهمة وزمنها قصير، أمّا مسرحية الكيماوي السوري مثلاً، فنفسه طويل حتى لو حرر السوريون كل أراضيهم، فسيظل موضوع الكيماوي شاهراً سيفه على الحقيقة.

فعندما تسمع إلى السياسيين اللبنانيين وهم يتحدثون عن الانتخابات وشعاراتهم الانتخابية، يُخيّل إليك أنّ الحرب ستدور بينهم بمجرد انتهاء الانتخابات، ذلك إن هم ربحوها أو خسروها جميعاً أم خسرها بعضهم؛ لأنّ كل فرقة تشعر أنّ لديها السبب الوجيه، الذي يجعلها الأحق بإدارة شأن لبنان على طريقتها الخاصة، ولكن ما تابعناه خلال الأعوام الماضية من أحداث، يجعلنا نطمئن أن أي شيء خطير لن يحدث، بدليل أنّ هناك أزمات خطيرة مرت على الدولة اللبنانية، كفراغ كرسي الرئاسة، وفراغ كرسي رئيس الوزراء، ورغم التطاحن الكلامي والتهديد والوعيد والعنتريات التي ليست في محلها في لبنان، فقد ظل الأمر تحت السيطرة، ويتم الانفراج المفاجئ في كل أزمة.

وقد أدار معظم تلك الأزمة مجلس النواب، وذلك بحنكة رئيسه المخضرم، وساعده في ذلك الثقافة الحربية التي ما زال يتذكرها الكثيرون من جيل الأزمة، وكذلك الأجيال التي عاشت مرارة الحرب الأهلية، والتي دامت قرابة 15 عاماً عجافاً، جعلت اللبنانيين يعرفون حجم تلك المأساة، التي خرج منها الجميع خاسراً دون استثناء، لذلك سهلوا الأمر على مجلس النواب أن يمارس فن القيادة لمنع التماس بين الفرقاء، فرغم الدفع الخارجي بالأمور إلى حافة الهاوية، فإن الجميع كان يساعد بعضه بفرملة الاندفاع عند حد معين من الزمن، لذلك كان الأضداد على الساحة اللبنانية، يرجحون التعايش والمهادنة على سياسة كسر العظم، فالذي كان يعصم الجميع من ذلك، الذاكرة القريبة لتلك الأحداث المؤلمة التي مرَّت بها لبنان، والشيء الآخر وجود قوة رادعة لدى طرف عاقل، ويعلم الآخرون أن ليس في مصلحتهم التصادم معه، وهو في نفس الوقت يُضحيِّ كثيراً حتى لا يُعطي الذرائع للآخرين، حتى لا ينحرف عن هدفه الرئيس، ألا وهو ردع العدوان.

فإذا سمعت إلى مرشحي أحزاب 14 أذار، ستجد أنّ همهم الرئيس سلاح حزب الله، وإصلاح النظام السوري، ووقف الدعم الإيراني بحجة التدخل في شأن المنطق، أمّا غير إيران فمسموح له التدخل كما يريدون وكيفما شاءوا، وأن استقلال لبنان منتهك فقط لهذه الأسباب الإيرانية والسورية لا غيرهما، وأن لا ضرورة لوجود السلاح بيد الحزب، في ظل وجود جيش لبناني قوي، وهذا على أساس أن الجيش الإسرائيلي سيردعه الجيش الرسمي للدولة، ورغم علمنا بالمعلوم من التجارب السابقة، ألا جيش رسمي يستطيع أن يردع جيش بني صهيون، عدا تلك المرة الوحيدة التي اتحد فيها جيش مصر مع جيش سوريا، ولم ينتصرا انتصاراً كاملاً على جيش العدو الصهيوني، الذي هو في واقع الأمر يمثل رأس حربة للجيش الأمريكي والأوروبي، ورغم أنّ سلاح هذين الجيشين كان سلاحاً شرقياً، ويكاد يكون غير مكشوف كله للخصم على أقل تقدير، إذن لا أعرف عن أي جيش يتكلم فريق 18 أذار يستطيع الوقوف في وجه إسرائيل، وأنا هنا لا أقلل من قدرات الجيش اللبناني القتالية، وقد أظهر قوة قتالية وبسالة عالية في حربه على داعش في الجرود، وطبعاً كان يؤازره الحزب في أعماله الحربية، ولكن ليس ذلك معياراً صالحاً للمقارنة في مقارعة جيش بني صهيون.

أمّا الناصتون إلى جماعة 8 أذار فإنّهم يسمعون إلى كلام يطرب العروبيين، ويشفي غليلهم من المتأمركين وأتباعهم، الذين عاثوا في الأرض فساداً، فتسمع إلى الصوت الهادئ الذي يشخص مصلحة العرب ولبنان معاً، وأنّ الموقف من سوريا هو موقف مسير ومصير ولا يمكن الحياد عنه، وأنّ الضرر الذي يلحق بسوريا لن يكون ضرره بعيداً عن لبنان التي تحيط سوريا بجغرافيتها البرية، هذا إذا استثنينا منطقة الجنوب، حيث يربض العدو الصهيوني على أرض فلسطين المحتلة، والذي يتلاحظ أيضاً على هذا الفريق أنّه لا يهدد ولا يخوّن أحداً بالعمالة للخارج، رغم الاصطفاف الواضح مع أمريكا وأدواتها في المنطقة، وهذا الموقف سيعطي مصداقية أكثر إلى دعاة السلم الأهلي في لبنان الذي يتمثل في جماعة الثامن من أذار، وهذا الطرف أيضاً لا يهمّش دور الجيش اللبناني، وربما وجد الجيش الوطني في حزب الله قوة مساندة له، والمقاومة تدعم بقوة تواجده على الخطوط المحاذية للجيش الإسرائيلي، وأن جيش العدو الذي تعود الغطرسة ضد لبنان وجيشه، فإنّه يعطي قدراً كبيراً من الأهمية لردع المقاومة له، إذا ما حدثته نفسه في الاعتداء عليه، وإسرائيل نفسها تعترف بقوة الردع للمقاومة، ذلك على عكس بعض اللبنانيين.

إذن التناقضات البرغماتية اللبنانية، هي الوحيدة في العالم التي تستطيع التعايش مع بعضها البعض، وذلك دونما أن يطغى جانب على جانب آخر، حتى لو علت نبرة التنابز والتخوين بين جميع الأطراف، وهذه ميزة انحصرت في جغرافية لبنان الصغيرة، فرغم ضيق هذه الجغرافيا، وتزاحم المصالح المتضادة عليها، إلا أنّ العيش بالمتوافق تفرضه حقيقة الواقع المعاش، فلن يكون هناك تهديد للسلم الأهلي اللبناني، فحتى عندما ظنّ اللبنانيون، إنّ رئيس وزرائهم في موقف حرج، لم يشمتوا بل اتحدوا واصتفوا على صعيد واحد حتى فُرجت الأمور، فعادت المواقف للتباعد مرة أخرى، ولو بنسبة أقل حدة من ذي قبل.. حفظ الله لبنان وكل بلاد العرب وأنعم عليهم بنعمة الأمن والسلام.