"الإخوان المسلمون".. تسعون عامًا

 

زاهر المحروقي

يوم الثاني والعشرين من شهر مارس الماضي، وافق الذكرى التسعين لتأسيس جماعة الإخوان المسلمين. ومرّت هذه الذكرى وجماعةُ الإخوان في أسوأ حالاتها بعد أن تكالبت عليها الكثير من الظروف السياسية في السنوات الأخيرة، حيث تم إقصاؤها عن الحكم في مصر، والزج بكلِّ قياداتها في السجون، واعتبرتها عدد من الدول العربية جماعةً إرهابية. بل إنّ هناك تصريحات سياسية عربية جديدة اعتبرتها منظمةً متطرفة تسعى باستخدام الديمقراطية لحكم البلدان وإقامة الخلافة في كلِّ مكان، وأنّها حاضنة للإرهابيين؛ وتمّ تصنيفها ومقارنتها بتنظيمي القاعدة وداعش الدمويين. وإذا كانت الجماعة قد رأت النور في مصر على يد مؤسسها حسن البنا عام 1928، فإنّها لم تجد مكانًا تحيي فيه الذكرى التسعين لإنشائها إلا في تركيا.

وإذ نتذكّر اليوم جماعة الإخوان المسلمين فإننا نتذكّر معها تاريخاً من الإيجابيات والمزايا وآخر من السلبيات والنقائص. وسأبدأ بهذه السلبيات، حيث وقعت الجماعة في أخطاء كثيرة، خلال التسعين عامًا الماضية، خاصة بتورطها في اغتيالات سياسية كانت في غنى عنها. ومن ذلك مثلا، اغتيالها للمستشار أحمد الخازندار يوم الثاني والعشرين من مارس 1948، وهو خارج من منزله، وفي يده ملفات عن قضية كان ينظر فيها، وتُعرف بقضية "تفجيرات سينما مترو"، والتي اتُّهم فيها عدد من المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، بعد أن كان قد أصدر حكمًا سابقًا أدان فيه بعض شباب الإخوان في الإسكندرية بالأشغال الشاقة المؤبدة. وبعد ذلك بشهور، أي في الثامن والعشرين من ديسمبر 1948، أقدمت الجماعة على اغتيال محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء المصري، احتجاجًا على قراره بحلّ الجماعةَ، وهو القرار الذي اتخذه ضدها بتهمة "التحريض والعمل ضد أمن الدولة". ورغم أنّ الإخوان أدانوا قتل النقراشي حينها وتبرؤوا من القتلة بلسان زعيمهم الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة، الذي قال مقولته الشهيرة عن القتلة "ليسوا إخوانًا، وليسوا مسلمين"، إلا أنّ ذلك لم يمنع فيما بعد من اغتيال البنا نفسه في الثاني عشر من فبراير 1949م. وتبقى أشهر محاولات الاغتيال، هي التي قام بها التنظيم السري للإخوان، بمحاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، وذلك عام 1954، في ميدان المنشية بالإسكندرية، وهو يلقي خطابًا أمام الجماهير الحاشدة؛ وهي المحاولة التي ظلّ الإخوان يتنصلون من مسؤوليتها ردحاً من الزمن، بل واعتبروها مسرحية فاشلة من إخراج النظام المصري، إلا أنّ الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل نشر في كتابه "ملفات السويس" محاضر التحقيقات مع الإخواني محمود عبد اللطيف، الذي أطلق الرصاص على عبد الناصر من المسدس الذي كان بحوزته، واعترف فيها بانتمائه للإخوان . ولعل أبرز فقد للإخوان المسلمين بعد اغتيال مؤسسها حسن البنا هو إعدام سيد قطب عام 1965، بسبب انخراطه في التنظيم السري في الحركة.

لم تقتصر أخطاء الإخوان على ذلك التنظيم السري فقط، الذي أخذ على عاتقه مسألة الاغتيالات السياسية، وإنما وقعوا في أخطاء أخرى كثيرة، خاصة في العام الذي حكموا فيه مصر (من 30 يونيو 2012 إلى 3 يوليو 2013)، فقد استفردوا بالحكم واستبعدوا التيارات السياسية الأخرى، وبدا الأمر وكأنّ هدفهم كان الوصول فقط إلى السلطة. وتلك في الواقع إشكاليةٌ كبرى تعيد النقاش المتكرر عن خلط الدين بالسياسة؛ وهو نقاشٌ لن يتوقف أبدًا؛ إذ إنه يتجدّد مع كلِّ حدث. وفي رأيي أنّ إطالة أمد الاعتصامات في الميادين العامة بعد إقصاء الرئيس محمد مرسي مثلما حدث في ميدان رابعة كان خطأ، إلا أنّ المعالجة التي قامت بها الدولة لتلك الاعتصامات كانت خاطئة وعنيفة.

وإذا كنتُ تحدثتُ عن سلبيات هذه الجماعة حسب رأيي، فعليَّ أيضاً ألا أبخسها حقّها من الحديث عن إيجابياتها غير القليلة. فيُحسب لها أنها حركة منظمة تنظيمًا جيدًا، وربما كان يوم الثاني عشر من أكتوبر 1992م خير شاهد على ذلك، عندما ضرب زلزالٌ عنيفٌ القاهرة، وخلِّف قتلى ومصابين بأعداد كبيرة؛ فقد نجحت جماعة الإخوان بحكم انتشارها الشعبي والمجتمعي في الوصول إلى أماكن الكوارث قبل وصول السلطات الرسمية بساعات، وقامت بدور أساسي وفاعل في إنقاذ الآلاف من الموت، ومدِّ يد العون للمشرّدين ممّن تهدّمت بيوتهم، وهو ما شهد به الجميع، إذ قامت بدور الحكومة، واعتبرها المسؤولون أنّها أصبحت دولة داخل الدولة.

وفي الوقت الذي تتسابق فيه الدول العربية إلى التعامل مع إسرائيل على حساب القضيّة الفلسطينية؛ ويتم فيه تبديل العدو من إسرائيل إلى إيران، فإنّ أدبيات الإخوان ترفض ذلك التوجه نحو إسرائيل، وقد سبق أن قال محمد مهدي عاكف المُرشد العام السابق للجماعة إنّ "هذه المسألة ثابت من ثوابت الجماعة، وليست محلَّ جدل أو نقاش؛ فإسرائيل في نظر الجماعة مجرّد كيان صهيوني مغتصب لأراضينا العربية والإسلامية المقدسة، قام على الجماجم والدماء"، فيما شارك شباب الجماعة في الحرب العربية - الإسرائيلية عام 1948، بأعداد هائلة من الشباب؛ أمّا وصف الرئيس مرسي للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز بــ"صديقي العظيم" في برقيته الشهيرة التي أثارت جدلاً واسعًا حينها، فلا تعدو من وجهة نظري المجاملات الدبلوماسية التي لا يستتبعها تغيّر في السياسات.

إنّ إقامة مراجعة شاملة للسنوات التسعين الماضية من عمر جماعة الإخوان المسلمين أصبحت من الضرورة بمكان الآن، لمعرفة أين أصاب الإخوان وأين أخطأوا؟؛ فلا توجد أيّ تجربة إنسانية دون أخطاء. ولعلّ هذا ما دعا الدكتور جمال عبد الستار، الأستاذ بجامعة الأزهر والقيادي الإخواني، أن يعلن في مقال نشره موقع "عربي 21" يوم 31 مارس 2018، عن تمنياته لو أنّ الجماعة احتفلت في تسعينياتها، بالإعلان عن نتيجة المراجعات الفكرية التي كان من المفترض أن تُعد خلال الخمسة أعوام السابقة، وتُقدم للأمة القرارات الاستراتيجية الناتجة عن تلك المراجعات. يقول عبد الستار: "تمنيتُ أن يكون الاحتفال بدراسة الأهداف التي من أجلها أنشئت الجماعة وواقع زمن الإنشاء، وهل تغيّر الواقع بعد تلك التسعين أم تغيّرت الأهداف، وهل من الممكن وضع أهداف جديدة تتناسب وواقع الأمة الآن، أم إنّ الأمور كما هي ولم يتغيّر شيء؟". وقد ذهب الدكتور جمال إلى أبعد من ذلك، حين أضاف: "تمنيتُ أن يكون الاحتفال بالاستجابة لكلِّ نداءات العقلاء والعلماء، وذلك بإعلان إعادة هيكلة التنظيم، وتسليم الراية لجيل جديد من الشباب النابهين والصادقين - وما أكثرهم - تسليمها لجيل قادر على تحدي الصعاب وتوحيد الصفوف وقيادة الحركة لبعث جديد، على أسس علمية ومناهج تجديدية وحركة واقعية ومنطلقات شرعية".

وما دعا إليه القياديّ الإخواني من إجراء المراجعات، وتسليم الراية لجيل جديد قادر على تحدي الصعاب، يصلح أن يكون شعارَ عملٍ لكلِّ الحكومات والتنظيمات التي أصابها الوهن والضعف والمرض. فعندما يصيب الجمودُ كلّ المفاصل فإنّ ذلك إيذانٌ بقرب الوفاة. وفي حالة الإخوان المسلمين فإنّ التجربة التي مرت بهم كانت كفيلة فعلا بإعادة الهيكلة وترتيب البيت من الداخل، من خلال الاهتمام بالمجتمع قبل التركيز على الوصول إلى سدة الحكم، باعتبار ذلك قمة الغاية. وهو الأمر الذي أدى إلى انتقادها بشدة، ووصل الشطط بالبعض لوصمها بالإرهاب ومقارنتها بالقاعدة وداعش، وفي ذلك تجنٍّ شديد بالطبع، فلا يمكن بأيّ حال من الأحوال مقارنة جماعة الإخوان بتظيمٍ دمويّ مثل داعش الذي نشأ على الإرهاب وقطْعِ الرؤوس والتمثيل بالجثث. وهي – أي الجماعة - وإن تكن قد نفّذتْ بعض الاغتيالات السياسية، إلا أنها لم تزد عما فعلته كثير من أجهزة المخابرات العالمية والعربية التي تقدّم نفسها باغتيالاتها تلك، مُحارِبةً للإرهاب. لذا، فإنّ عملا طويلا وجهدا شاقا ينتظر الجماعة لمسح الصورة الذهنية السيئة عنها التي تأثرت بالتأكيد بالحملات المضادة، تلك الحملات التي تريد إلصاق تهمة الإرهاب بالإخوان المسلمين على حساب الحركات الإرهابية الحقيقية، وعلى رأسها داعش.