حميد السعيدي
أجمعت مجموعة من الباحثين المختصين في التاريخ العُماني أنّ هناك فقرا كبيرا في المادة التاريخية التي تقدم لطلابنا في مؤسسات التعليم العام والتعليم العالي، وهناك مراحل تاريخية عظيمة لم تدرس لطلابنا، وشخصيات عمانية حتى النخاع كان لها دور كبير ليس على مستوى عُمان فحسب وّإنما على مستوى العالم، وحققت إنجازات عظيمة تركت إرثا محل فخر واعتزاز، وقد أهملت في المنهج العماني، مما كان له الأثر السلبي في مستوى الوعي بالتاريخ العُماني لدى فئة كبيرة من شبابنا، مما يؤثر بدرجة كبيرة على الهويّة الوطنية.
ونحن لا نطالب بالعودة إلى الماضي في وقت تتسابق فيه الدول العظمى في الذكاء الاصطناعي وغزو الفضاء، وإنّما نريد العودة من أجل قراءة التاريخ والاستفادة منه في بناء المستقبل، فهو مصدر العزة والفخر والعمل والاجتهاد من أجل الوطن، فهذا التاريخ أثبت أنّ لدينا كل الإمكانيات البشرية القادرة على الصناعة الإبداع والابتكار، فقد كان العُمانيون صُناع سفن كانت لها شهرتها بالعالم، وكانوا مهندسين عظماء بنوا قلاعا عظيمة بقيت عبر مئات السنين، وكانوا علماء جيولوجيين حفروا الأفلاج عبر الصخور من أجل الحصول على المياه، وكانوا علماء فكر وأدب، وعلماء لغة، وطب وهندسة، كانت لهم إسهامات عظمية على مستوى الإنسانية، كل ذلك يُعلِم أبناء هذا الوطن أنّهم أحفاد علماء عظام.
فهكذا هم العمانيون صنعوا حضارة عظيمة من خلال ما قدموه للإنسانية من إنجازات عظيمة كان لها الدور الكبير في تغيير مسار التاريخ على إقليم عمان وحده والذي شمل مساحات شاسعة من منطقة الخليج العربي وآسيا وإفريقيا، لتصبح إمبراطورية عظيمة من خلال قادتها وعلمائها ومنجزاتها، أثّرت على مستوى العالم، وصنعت قوة ومكانة فأصبحنا قادة المحيط الهندي، في حين كانت العديد مناطق العالم تعيش في مرحلة من التخلف والجهل.
كل ذلك التاريخ الذي يمتد إلى أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد ينبغي أن يكون حاضرا في ذاكرة الوطن، وفي مفكرة أبناء هذا الوطن، فهذا تاريخ وطن وذاكرة أمة لا يمكن أن يصبح مهمشا بما نراه اليوم في مناهجنا الدراسية، وإذا كنا ننظر إلى أنّ مواد العلوم التطبيقية تأتي في أولويات اهتمام المؤسسات التربوية، فإنّ الاهتمام ببناء الهوية الوطنية يجب أن يحتل المرتبة الأولى فالبحث عن الإبداع والابتكار لن يأتي إلا من خلال تلك العقول التي تؤمن بالانتماء الوطني الذي يغرس في نفوسهم منذ نشأتهم الأولى، والتاريخ هو السبيل إلى بناء تلك الهوية الوطنية وذلك الانتماء الوطني، فهل يظل هذا التاريخ الكبير مهمشا وغائبا عن ذاكرة الأمة أو أنه بحاجة إلى قرار يعيد له هيبته ومكانته في مؤسسات التعليم؟
فهذا التاريخ الذي يعتبر ملكا للعمانيين كلهم، وليس تركة توزع على الورثة؛ فالجغرافيا الحديثة بكل توزيعاتها لا يمكن أو تعبث بالتاريخ أو تغير من حقائقه، ولا يمكن أن نوزع العطايا على المحتاجين والراغبين في الحصول على النزر القليل منه، فهو حق يمتلكه كل المواطنين وهم المعنيون بالتنازل عن هذه الأملاك أو الاحتفاظ بها؛ ولكن ما يشهده الشارع العماني من امتعاض شديد وغضب عارم دليل على أنّ هذا التاريخ لا يقبل القسمة على اثنين، فهو ليس تاريخًا نشترك به مع الآخرين ومن حقنا أن نتمسّك به وندعو للاحتفاظ به، فالوطن أرض لا تموت، وأمّه تموت من أجله.
وما يحدث اليوم من محاولات سرقة أو العبث بالتاريخ بين الحينة والأخرى يجب أن تجد القرار الرادع لها، فلا يمكن الاستمرار بالعبث بالتاريخ العماني، فكثير من دول العالم المتقدم تحارب من أجل التمسّك بتاريخها، وتسعى إلى الاحتفاظ بها، وما حدث بين كوريا واليابان حول تغيير التاريخ كانت له ردات فعل قوية وقرارات سياسية على مستوى عالٍ، بغيّة عدم تغيير التاريخ أو محاولة الاقتراب مه، فحرمته كحرمة كل الأراضي الوطنية لا يمكن الاقتراب منها.
لذا علينا ألا نكون ردة فعل وإنّما الفعل ذاته القادر على تغيير الكثير من الجوانب المتعلقة بالتاريخ العماني، فنحن لسنا بحاجة إلى التعبير عن غضبنا عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد كل عمل يقوم به الآخرون، وإنّما نحن بحاجة إلى العودة إلى المدرسة العُمانية من أجل أن تقوم بدورها في إعادة كتابة التاريخ وتقديمه للطلبة كمادة معرفية متعمقة بالتاريخ العماني، فقد أجمع كثير من الباحثين العمانيين والمختصين بالتاريخ العماني على ضرورة تواجد كتاب مختص بالتاريخ العماني يدرس في كل المراحل التدريسية بحيث تخصص كل نسخة لمرحلة معينة من التاريخ العماني، وحينما يكمل الطالب مراحله الدراسية يكون قد أطلع على هذا التاريخ الكبير بجميع مراحله دون استثناء مرحلة بذاتها أو استبعاد شخصيات عمانية تركت لها بصمة عبر التاريخ.
إلى جانب وجود سلسلة من القصص والروايات التاريخية عن الشخصيات العمانية، تفيد الطلبة في قراءة حقائقها وتحليلها لاستخلاص القيم والمبادئ والحقوق والواجبات من خلالها، بما يسهم في غرس كل هذه القيم الوطنية في نفوسهم لتنعكس على دورهم الوطني بالقيام بواجباتهم في صناعة المستقبل والاستفادة من قدراتهم العقلية في تقدم هذا الوطن، فالتاريخ العماني غني بإرث عظيم من العلماء والقادة العظام، فخليل بن أحمد الفراهيدي، وأحمد بن ماجد، والمهلب بن أبي صفرة، وناصر بن المرشد، والوارث بن كعب، والصلت بن مالك، وأحمد بن سعيد، وسعيد بن سلطان، وغيرهم من الشخصيات العمانية التي كان لها دور كبير في تغيير مسار التاريخ.
ولكن في ظل غياب هذا التاريخ الكبير عن المدرسة العمانية حان الوقت للبحث عن القرار الذي يوجه تلك المؤسسات من أجل القيام بواجبها ودورها الحقيقي في تدريس التاريخ العُماني، فتلك الدولة العظمي الولايات المتحدة الأمريكية تدعو إلى إعادة كتابة التاريخ، وتلك الدولة المتقدمة كتركيا اليوم يدعو رئيسها إلى ضرورة تعريف الأتراك بتاريخ أجدادهم العظام الذين أسسوا حضارة عظيمة، ونحن بحاجة إلى وصل الأحفاد بالجذور من أجل بناء الوطن، فأين نجد هذا القرار؟