غزو البلهاء

محمد علي العوض

ربما يكون سؤال سارتر الذي طرحه حول ماهيّة الأدب؛ من أهم الأسئلة التي طرحت في هذا الاتجاه أوائل القرن العشرين، ولم يتوقف سيل الأسئلة المصيرية عند هذا الحد بل تجاوزه سارتر أيضًا ليلقي حجرًا آخر في بحيرة الأدب ويطرح سؤالا مفاده: لمن نكتب؟

لقد كان هذا السؤال مُقدمةً لاتجاه ونظرية نقديّة جديدة تندرج في إطار تنظيرات ما بعد الحداثة؛ وهي نظرية المُتلقي التي تجاوزت المناهج النقديّة الحديثة كالشكلانية والبنيوية والتفكيكية وإن كانت هذه المناهج قد أسست لمفهوم التلقي وجمالياته، الألمان بدورهم ساهموا في هذه النظرية الجديدة بقدر غير يسير حول التأصيل لها في بداياتها ووضع منهجية وقواعد لها، لتشكل نقلة نوعيّة جديدة في مفهوم النقد؛ إذا حولت بؤرة الضوء من المؤلف المتعالي بين نصوصه إلى القارئ، ولتنال من قداسة "المدارس النقدية" وتقول إنّ مقياس نجاح أيّ عمل أدبي هو قبول القارئ له سواء كان مثقفاً أم قارئًا عاديًا؛ فإمّا أن يترك أثرًا على المتلقي وإما أن يذهب هباءً منثورًا.

ترجع الأصول الأبستمولوجية – المعرفيّة- لنظرية التلقي لفلسفتين هما الظاهراتية والهرمنيوطيقا. وتتلخص السمة العامة للأولى حول أنّها تأخذ الأشياء بمظاهرها، وتنكر وجود الأشياء وراء هذه المظاهر، وحتى إن تمّ التسليم جدلاً بوجود خلاف ما يظهر للحواس فإنّها تنكر قدرة العقل على الوصول إليه. أمّا الهرمنيوطيقا فهي بحسب تعريف موسوعة ويكيبيديا مدرسة فلسفية تشير لتطور دراسة نظريات تفسير وفن دراسة وفهم النصوص في فقه اللغة واللاهوت والنقد الأدبي، وهي في أبسط تعاريفها تعني "التفسير والتأويل".

وترى نظرية التلقي أنّ المشاركة الفعّالة بين النص الذي ألفه المبدع والقارئ المتلقي هي أهمّ محاور العمليّة الأدبيّة، وأنّ الفهم الحقيقي للأدب ينطلق من موقع القارئ باعتباره المرسل إليه والمستهلك الأول له.

ويعضد هذا الرأي ما قاله "إيزر" حول أنّ العمل الأدبي له قطبان؛ قطب فنّي وقطب جمالي، فالقطب الفنّي يكمن في النص الذي يخلقه المؤلف من خلال البناء اللغوي وتسييجه بالدلالات والثيمات بقصد تبليغ القارئ بحمولات النص المعرفيّة والأيديولوجيّة. أمّا القطب الجمالي فيكمن في عملية القراءة التي تخرج النص من حالته المجردة إلى حالته الملموسة، أي يتحقق بصريًا وذهنيًا عبر استيعاب النص وفهمه وتأويله. ويرى أيضًا أنّ التأويل يقوم بدور مهم في استخلاص صورة المعنى المتخيّل عبر سبر أغوار النص واستكناه دلالاته والبحث عن المعاني الخفيّة والواضحة عبر ملء البياضات والفراغات للحصول على مقصود النص وتأويله انطلاقا من تجربة القارئ الخيالية والواقعيّة.

وبحسب ما سبق فإنّ الأدب لا يكون عملا إبداعيًا إلا من خلال المشاركة التواصليّة الفعّالة بين المؤلف والنص والجمهور القارئ؛ وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ العمل الأدبي يتموقع في الوسط بين النص والقراءة من خلال التفاعل بين الذات والموضوع أي النص والقارئ، ومن ثمّ فالعمل الأدبي أكبر من النص وأكبر من القراءة، بل هو ذلك الاتصال التفاعلي بينهما في بوتقة منصهرة واحدة.

ولأنّ النظريّة تتمحور حول التفاعل بين المُتلقي والكاتب يتبدى هنا سؤالان، الأول: من هو القارئ الذي يقرأ قراءة مثمرة جادة، تغوص في فراغات النص وبياضه لتعيد بناءه من جديد من خلال التأويل وانطلاقًا من تجربة جماليّة وفنيّة، وله قدرات خياليّة يوجهها للتحرك مع النص باحثا عن بنائه، ومركز القوى فيه، وتوازنه، وواضعا يده على الفراغات الجدليّة فيه فيملؤها باستجاباته.

والسؤال الثاني يدور حول نوعية الكاتب ومن يكتب ويتكلّم نصًا؛ وفي هذا المقام يقول الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو إنّ هناك نوعين من الكتاب الأول: يكتب "لإرضاء جمهور عريض بغيّة التكيف مع أهواء السوق، ويكتب وفق وصفة موجهة لإنتاج مادة بالجملة؛ فهو يقوم بما يشبه دراسة للسوق لكي يتكيّف مع متطلباته. أمّا الثاني فيروم إنتاج قارئ جديد، ولا يريد أن يكون بأي شكل من الأشكال دارسًا للسوق من أجل تحديد الطلبات، بل يريد أن يكون فيلسوفًا يستشرف روح العصر، وهذا هو الكاتب الصادق في نظري".

ولأنّنا نعيش في عصر ما عادت فيه الكتابة حكرًا على الأوراق والكتب بل باتت منتشرة عبر الفضاء الإسفيري والكل يتحدث كتابةً وصوتًا وصورة انتقد امبيرتو إيكو مواقع التواصل الاجتماعي الشهيرة، ووصفها بأنّها جعلت الجميع يتحدث كمن يحمل جائزة نوبل، حيث قال: "إنّ أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً، أمّا الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل.. إنّه غزو البلهاء".

mohamed102008@windowslive.com