تشويه الحقائق.. والصمت الرسميّ

 

مسعود الحمداني

نحب المديح العالي، وتطربنا أصوات حناجرنا، ونعجب بطنين آذاننا، نهلّل كلما خرجت علينا تغريدةٌ تشيد بهدوئنا، وحكمتنا، ونكبّر كلما شاهدنا تقريرًا يتحدث عن منجزاتنا، وتفز قلوبنا كلما قرأنا مقالة لكاتب مجهول يسرد علينا ما نعرفه عن أنفسنا!!

وحين ينقلب الوضع ويقوم البعض بما يسيء لنا، تخرج علينا تلك الأصوات التي تشبه الضمير لتقول لنا: "لا تنجرفوا خلف المهاترات، ولا تخدعكم المظاهر، ولا تردوا عليهم لأنّهم يريدون استفزازكم، وإثارة الفتنة".. فنصمت، وننسحب بهدوء، ونجر أصواتنا إلى الداخل، سمعا وطاعة، وصدقا وتصديقا، فلا نرد على الإساءة، ونتقبّلها بصدر رحب، ونعتقد أننا أنجزنا ما نريد.. ولعلنا نسينا أنّ الصوت الأخرس في إعلام هذا الزمن لا يلتفت إليه أحد، ولا يعيره الآخرون اهتماما، بل هو من يُذهب الحقوق، ويغيّب العقول، ويجرّد الوطن من تاريخه، ومكتسباته، وحتى أفراده.

وفي المقابل ينبري بعض الكتاب للرد على كل إساءة تصدر من مغرّدٍ مجهول الهويّة والنسب، ويثير هؤلاء الكتّاب عواطف التاريخ، ويتحدثون بلسان لا يسمعه غيرهم، ويعتقدونّ أنهم بذلك قد ثأروا للإساءات التي لحقت بالوطن، وحاولت طمس آثاره، ويصرخون في وادٍ غير ذي زرع، بينما تقف السلطات الرسمية بعيدا، تنظر إلى الماء وهو ينسكب من سواقيه، وتلتزم الصمت، أو الصوت الذي لا يسمعه المواطن، وبذلك يظل الكاتب في الواجهة بينما تنسحب "السلطات المعنية" إلى الظل وتظل تراقب الوضع، ولعلها تكتفي بمقالة كاتبٍ، أو تفنيد مؤرخٍ، أو ردود أفعالٍ معقلنة، منفعلة أو غير منفعلة. وهذه الردود العاطفية في كل أحوالها لا تعفي هذه السلطات من مسؤولياتها تجاه ما يثيره البعض من استعداءات لهذا الوطن، والتقليل من شأنه، بل ومحاولة محو تاريخه في الأذهان على الأقل.. وهي استراتيجية شعبية ممنهجة تقوم بها بعض الدول لكي تشكّل واقعا معينا في أذهان الناس دون أن تثير ذلك الأمر بشكل رسميّ، فهي تعلم أن الشعوب لا تقرأ، وأنّ الإعلام التوجيهي الاجتماعي أشد فتكا من كتاب مدرسي، أو بيان رسمي، أو محاضرة تلقى هنا أو هناك، فتلك الدول تعمد إلى زرع معلومات مغلوطة أو مزيفة في أذهان الآخرين، وهم بالملايين، مستخدمة وسائلها الإعلامية، وكتائبها الإلكترونية، وهي واثقة من زرع تلك المعلومات المشوّهة، ومعتمدة على كسل القراءة وشغف المعرفة البحثية لدى شعوب المنطقة، وبذلك تصل إلى هدفها، على الأقل من خلال تشويش المعلومة في أذهان العامة، ولا أعتقد أنّ مقالا أو برنامجا محليا أو محاضرة لا يحضرها أحد قادرة على إعادة الأمور إلى نصابها، ولا أظن أنّ تلك هي الوسيلة الرادعة والمقبولة شعبيا للرد الحقيقي والقويّ.

ومن طرائق التزييف والتزوير غير البريئة هو ما تقوم به بعض الدول من خلال بث ما تعتبره "خطأ غير مقصود" في وثائق رسمية وهي تقوم عبر تلك الوسائل الممنهجة بدس السم في العسل، فتمحو جزءا، وتزيد شبرا، وهي واثقة من أنّ ردة الفعل الأخرى لن تكون سوى بالدعوة للصمت، وهي بذلك ترسل إشارات مقصودة لتتعرّف على ردة الفعل الرسمية، كي تعدّل من مسارها أو تعيد الإرسال مرات ومرات مستغلة الصمت الرسمي المطبق تجاه هذه الانتهاكات الصارخة.

أعتقد أنّ الصمت أحيانا لا يوحي بالحكمة، بل يشجع الطرف الآخر على تجاوز حدوده وإعادة المحاولة، وذلك يعني استمرار حملات التشويش والتشويه التي تغيّر مفاهيم التاريخ الراسخة، والتي ستبقى بين أغلفة الكتب بينما تظل المعلومة وصناعة الواقع الجديد مستمرة دون توقف عبر وسائل الإعلام الاجتماعي. فحين يكون أمن وتراب الوطن هو الهدف فلا تلجموا صوت السياسة عن الكلام.. فالصمت يعني التسليم بالواقع.. والصمت علامة الرضا.

 

Samawat2004@live.com