من يصنع التاريخ.. ليس لديه وقت لكتابته!

 

أحمد بن عيسى الشكيلي

على مدى أيام حياتنا التي تتعدد معايشاتها وتختلف مشاهداتها اليومية نمر بالكثير من المواقف وتعترض حياتنا الكثير من المشاكل والهموم التي قد تصل أحيانا إلى "مُعضلات" إما نقف صامدين لتحديها ومواجهتها أو نستسلم أمام الأمر الواقع الذي اعترضنا، ولكن إن كانت العزيمة حاضرة والهدف واضح جليّ فبلاشك سنجتاز الحدث المؤقت مهما كان جسيماً فمن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر.

عُمان.. سلطنتنا الحبيبة الوادعة ما بين بحار وجبال، وصحارٍ ووهاد، على مدى قرون من الزمن مرت بالكثير من المواقف الجسام التي لم يتوانَ العمانيون لحظة واحدة في سبيل تخطّيها واجتيازها وإن كلّفهم ذلك أرواحهم، وبذلك فقد غرست عُمان التاريخ وروته بعرق أبنائها وحمته بدماء المخلصين الذين وهبوا أرواحهم تضحية وفداءً للوطن الذي ما عرف طعم الهزيمة وما استساغ الذل والهوان على حقبات حضاراته المتلاحقة، أبادت الغزاة ودحرت الطامعين ووقفت سداً منيعاً وحصناً حصيناً أمام الكثير ممن حدّثتهم أنفسهم بأن تكون عُمان مرتعاً خصبا لأطماعهم وأرضاً عليها ينسجون أحلامهم الوردية التي جاءتهم أضغاثاً وهم مستلقون على شواطئ لشبونه أو منهمكين يحصدون الزعفران في بلاد فارس.

عُمان.. مقبرة الغزاة هكذا كانت وستعيش قبلة للسلام، صنعت تاريخها بنفسها بفكر أبنائها وعزيمتهم، كان ولا يزال لها شأن منذ القدم بين جميع الحضارات، جاءها التاريخ لكي يضم بين صفحاته اسمها ويخلّد إرثها العظيم، "فلو جئت أهل عُمان ما سبوك وما ضربوك" وصدق الرسول العظيم إذ قالها، فهذا خير مثال على سمو أخلاق العمانيين ورقيّ هذا البلد الذي لا ينبت إلا طيباً.

إنّ لعمان مرتكزات حضارية فريدة نابعة من صميم فكر أبنائها وسيكولوجيتهم النفسية التي عاشوا عليها سنيناً، منذ أن قال فيهم سيدنا أبو بكر الصديق "يا أهل عُمان إنكم أسلمتم طوعاً ولم يطأ رسول الله ساحتكم بخفّ ولا حافر.. ولا جشمّتموه ما جشمّه غيركم من العرب" وهنا يتضّح جلياً أن الموقف العماني عبر التاريخ موقف مغاير للكثير من الدول والشعوب التي لا ترى أبعد من حدود قدميها، ومع تعدد القضايا التاريخية المعاصرة والسياسية التي بات ضررها أكبر من نفعها كانت مواقفها الراسخة المبنيّة على مبدأ لا ضرر ولا ضرار، فنأت جانباً عن الكثير من التكتلات والتحزبات التي في ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، لا تبتغي من ذلك أن تنتهج مبدأ "خالف تُعرَف" كما بات ينظر إليها ممن يُعرفون حالياً بأنهم المهتمون بالشأن الخليجي، أو المحللون السياسيون الذين أصبح الشأن العُماني همّهم أكثر مما هو يهم أبناءها، وإنما هدفها ما هو أبعد من ذلك، فعُمان لا تغرّد خارج السرب كما يعتقدون لأنّها بكل بساطةٍ وُجِدت لتقود السرب. 

التاريخ العماني بل العالمي بأسره إن لم أكن مبالغاً غني ثري بالكثير من المواقف التي سجلتها الإنسانية جمعاء لعُمان الأرض والإنسان فعلى امتداد السنوات السابقة شقّ السالفون من أبناء عُمان طريق المجد، بنوا وشيّدوا، عملوا وصنعوا، فحين لم يكن العالم يعرف كيانات سياسية بمسمى دول ودويلات كما هي الآن فقد كان العمانيون يشقون عباب بحار الصين، حتى بلغوا أقاصيها كما أشارت الكثير من كتب التاريخ. وكان أبو عبيدة عبدالله بن القاسم العماني قد وصل إلى ميناء كانتون حوالي 133هـ وتعتبر رحلته من أقدم الرحلات العربية إلى بلاد الصين إن لم تكن أولها، فنشر الإسلام وكان له فضل أن تصدح الكثير من الحناجر بذكر الله واعتناق الإسلام.

وعلى مر السنين وتقلّب الأيام كان العُمانيون حاضرون بمواقفهم وبطولاتهم التي لم يكن لديهم الوقت لتسطيرها؛ لأن هدفهم كان أبلغ وأعظم من التفاخر بما يرونه واجباً عليهم القيام به، فقد أبحرت سفنهم لتشق السلاسل التي كُبلّت بها البصرة فكانت الرحماني رحمةً مُرسلةً لتجد البصرة حرّيتها من ظلم الفرس وجورهم الذي لحق بها وكاد أن يُبيد أهلها.

وحين على صوتُ الزهراء السقطرية:

ما بال سلطٍ ينام الليل مغتبطاً.. وفي سقطرى حريماً باد بالنهب      

مستجدية بذلك نخوة العُماني الصلت بن مالك الخروصي؛ هبّت الهمم العُمانية العالية لترتفع الصواري وتسير السفن نحو سقطرى لتعلو أركان الحرية ويباد الظلم ويندحر من أراد بنساء المسلمين وأرض سقطرى سوءً هناك.

وفي حين كانت الكثير من الدول التي تتحدث الآن بضروب الحضارة غارقة في وحل جهلها؛ كان العمانيون يديرون إمبراطوريتهم العظيمة التي وصلت لشرق آسيا وأفريقيا حيث تروي كتب التاريخ أنّهم حكموا زنجبار وما جاورها لقرابة ألف عام، فشخصت هناك بيوت السهل والعجائب والحكم لتروي لاحقاً بعضاً من بطولات العمانيين للأجيال المتلاحقة.

وحيث إنّ البحر الواسع المتلاطمة أمواجه تخشى أن تسبر أغواره السفن ويخاف أن يرتاده كل ذي لبّ، إلاّ أن نواخذة صور وربابنتها رفعوا فيه أشرعتهم عالياً ليبحروا نحو الهند وشواطئ ممباسا والبصرة المليئة بكنوز العلم، صمد العمانيون بحراً كما صمدوا براً، اتخذوا من مياهه فراشاً وكأنّهم على أراضي بيوتهم جالسين.

هكذا تحدّث التاريخ وهكذا قالت حروفه عن بعضٍ من كلّ فقط، تحدّث التاريخ عن القليل اليسير مما استطاع أن يحيط به المؤرخون علماً.

ولأنّ فاقد الشيء لا يعطيه فقد ظهرت مؤخراً الكثير من المحاولات لسرقة التاريخ العماني العظيم والإرث الحضاري الكبير في محاولات لتقمّصه، وانتحال شخصياته، وتزوير الحقائق فيه بنسبتها إلى غير أهلها، وهذا أمر متوقع فمن ليس له ماضٍ مجيد عريق يخشى على تدنيسه؛ فلا ريب أن يعيث الفساد بماضي غيره أو يسطو عليه ليجعل منه تاريخاً له، كثر المتزلفون والمتملقون والمتأرخون والمدعون علماً بالتاريخ، فبعد أن كانت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل عُمان أصبحت تنسب الرسالة لأهل دويلة أخرى كما نسبت لها أسد البحار أحمد بن ماجد، وادعّت بطردها للغزاة البرتغاليين ودحرهم من أراضي عُمان.

وهنا.. أعيد ما قاله الكثيرون "من يصنع التاريخ ليس لديه وقت لكتابته"، ولكن ماذا بعد الصناعة؟ هل ندع تاريخنا عرضة للاندثار والسطو من كل قاصٍ ودانٍ؟ هل ما سطّره الأجداد يهمله الأحفاد؟ هل ما سالت لأجله الدماء نحكم عليه بالفناء؟ هل كل غثٍ هزيل من كتابات اليوم وما ماثلها هي الإرث العماني الذي يجب أن تسطّره الكتب وتسرده للأجيال القادمة والباحثين والدارسين؟ تساؤلات كثيرة وعلامات تعجب أكثر حول الإرث التاريخي الذي لن تدرك منه أجيال عُمان القادمة سوى الاسم فقط.

لستُ عالماً بالتاريخ ولا أدعي معرفةً بتفاصيله؛ ولكني على يقين تام بأنّ الكثير من تاريخنا العُماني مُهمل وغير موثّق في حين تحشد دويلات أخرى الباحثين لصنع تاريخ لها يتسلّق على أعمدة التاريخ العُماني.

إنّ مع كل محاولة لسرقة تاريخ بلادنا تتعالى أصواتنا، وتكثر حروفنا، وتتكرر نداءاتنا لأصحاب القرار، وحسبي أنّهم يسمعون أو يقرأون، فأعيرونا وبلادنا بعض سمعكم، فلا نريد منكم أن تصنعوا المعجزات، أو تشقوا البحر بعصاكم، كل ما نريده تاريخاً يُصان لا يتطاول عليه المغرضون ولا يقتات عليه الصعاليك، نريد أن نسمع صوتكم ولو همساً، فسياسة الصمت ما عادت تجدي نفعاً، صمتنا كثيراً، وكثيراً أقنعنا أنفسنا بأنها سياسة الحكمة، حتى أفقدتنا هذه الحكمة الكثير، أفقدنا صمتكم موروثات البلاد وصناعاته وحِرفه التقليدية، أفقدنا صمتكم فنوناً لم تصدح بها إلا حناجر أبناء عُمان، إنّ الحكمة باتت تقتضي أمراً آخر وإلا سنفقد ما هو أعظم بسببكم وتهاونكم، فكم من مقدرات تاريخية عظيمة لهذا البلد أصبحت أدراج الرياح، بات من ليس له تاريخ يتلقفها من كل جانب، يعدُ لها العدة وفق منهجية مدروسة لإحتواءِ ما هو أكبر، بات من ليس له تاريخ يدّعي بأنّه هو من حمانا وأنقذنا وسيّر الجيوش لنصرتنا، كما سيّر القوافل لإصلاح ذات بيننا، بات يدّعي بذلك علانية على مسمعٍ ومرأى منكم وأنتم صامتون وغيره يكتب ويسجل إدعاءاته كتاريخٍ له، ونحن ما زلنا نتغنى بطيبتنا وسماحتنا وما ماثلها من صفات ونعوت أصبحت لا تُسمِنُ ولا تُغني من جوع في عصرٍ لم يعد فيه الصمت أبلغ من الكلام.

تعليق عبر الفيس بوك