قابوس يوقد شعلة معرفية جديدة

محمد علي العوض

صنيع جلالته يعيد إلى الأذهان سيرة هارون الرشيد ومكتبة بيت الحكمة في بغداد، وحركة النقل والترجمة والعلوم

كنت قد آليت على نفسي ألا أتناول شأنًا داخليًا صرفًا، فأهل مكة أدرى بشعابها وإدارة شؤون دنياهم؛ ولكنّ افتتاح مبنى مكتبة البيروني بالعاصمة الأوزبكية طشقند وبدعم سام من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - حدث يستحق أن يسكب فيه مداد الذهب، وأن تذرف العين دمعة من فرط الغبطة؛ لأن الفعل الذي يرفد العقول بالعلم والمعرفة وطرد الجهل هو فعل عظيم لا يصدر إلا ممن عظمت همته، واستنارت بصيرته، وقديما قيل على قدر أهل العزم تأتي العزائم.

إنّ حدث الافتتاح الرسمي للمبنى الجديد لمكتبة أبي الريحان محمد بن أحمد 973م- 1048م المعروف بالبيروني، والذي رعاه صاحب السمو السيّد هيثم بن طارق آل سعيد بناءً على تكليف سام من لدن حضرة صاحب الجلالة؛ أكبر من أن يقاس بمعايير المصالح المشتركة أو العلاقات الدبلوماسية وأواصر الصداقة بين الشعوب والدول؛ فجميل صنيع جلالته يعيد إلى الأذهان سيرة هارون الرشيد ومكتبة بيت الحكمة في بغداد، وحركة النقل والترجمة والعلوم في عصر ابنه المأمون، وأشبه بإيقاد شعلة في طريق الآخرين، ويُقرأ في سياق حكمة السلطان - المثقف الأول- وسعيه الدؤوب في تجسير صلة حسنة بين الثقافة والسلطة؛ في وقت يعتبر فيه كثيرون أنّها مفقودة، وأنّ الثقافة فعل في مبناه مناوئ للسلطات، وأنّ العلاقة بين المثقف والسلطة – من خلال شواهد عربية وعالمية- علاقة يحكمها الشك والريبة.. الكر والفر.. التعارض والتناقض، ولعلّ فكرة "اليوتوبيا" أو "المدينة الفاضلة" خير مثال يُحتج به في هذا الجانب، وإن كان الحكم بالمطلق فيه خلل كبير، فكم من سلاطين وخلفاء أسهموا في إثراء حركة الحضارة العربية والإسلامية بتشجيعهم واحتوائهم أهل المعرفة والثقافة من شعراء وأدباء وعلماء، ودوننا سيف الدولة الحمداني في الشام ومجلسه العامر بالمتنبي وأبو فراس والفقهاء، وكذلك المأمون في بغداد وصلاح الدين الأيوبي في مصر، والمستنصر بالله في الأندلس صاحب مكتبة "قرطبة" والذي كان كل هدفه السير بالأندلس قدمًا في طريق العلم والمعرفة؛ وفي سبيل ذلك كان ينشر رجاله في كل مراكز الثقافة الإسلامية للبحث عن نوادر الكتب والمخطوطات وشرائها بأغلى الأثمان، بل إنّ الكتب كانت تصل إليه من أصحابها قبل أن ترى النور في بغداد أو الموصل، وكان القارئ الأول لكل كتاب جديد.

تكريم جلالته - كقارئ حصيف- لإرث البيروني لم ينبع من فراغ؛ فهو من بين أعظم العقول التي عرفتها الثقافة الإسلامية، إلى جانب كونه رائد الانفتاح على الثقافات والحضارات الأخرى والتبادل المعرفي معها، وهو أول من قال بنظرية دوران الأرض حول نفسها، وأول من أشار إلى جاذبية الأرض، وقد كان رحالة وفيلسوفاً وفلكياً وجغرافياً وجيولوجياً وصيدلياً ومؤرخاً ومترجماً لثقافات الهند القديمة، وشاعراً، وعالماً في الطبيعيات ملماً باللغة الخوارزمية، والفارسية، العربية، السنسكريتية، ويجيد أيضاً اليونانية، العبرية، والسيريانية، وله إسهامات في علوم الأرض إلى جانب مساهماته القيمة في الرياضيات وغيرها من العلوم.

المكتبة صممت وفق أحدث النظم التكنولوجية المستخدمة في مسح الكتب وتخزينها رقميا، بحيث يمكن إتاحتها على الانترنت لتمكين العلماء في كل أرجاء العالم من استخدامها في بحوثهم. كما يحتوي المبنى على مختبر مخصص لحفظ وترميم القطع التي أصابها التلف بفعل الزمن. فضلا عن ذلك، تم تجهيز المكتبة بنظام أمني متطور يضمن تخزين الكتب بالأسلوب الذي يحافظ على سلامتها وحفظها في درجة حرارة ورطوبة مناسبة. وتمتد على مساحة عشرة آلاف متر مربع، تحوي كنزًا معرفيا قوامه قرابة 40000 وثيقة تاريخية وحوالي 26 ألف مخطوطة ووثيقة تاريخية يعود بعضها إلى أكثر من ألف سنة وتلقي الضوء على العصر الذهبي للفكر والعلوم الإسلامية ليس في أوزبكستان فحسب وإنّما في العالم أجمع.

لقد شكلت المعرفة ومنذ بواكير فجر النهضة المباركة ركنا أساسيا في الخطاب السياسي لصاحب الجلالة واهتماماته، ويتجلى ذلك في إقامة جلالته العديد من المشاريع والصروح الثقافية والعلمية محليا وعالميا؛ فكدأب سيرة كل العظماء دوما ما فتئ جلالته يقدم الدعم للمؤسسات الثقافية العلمية المهتمة بحفظ التراث والعلوم والمعارف الإسلامية والعربية؛ ويُقدر الإسهامات العلمية للعلماء الذين قاموا بدور كبير في خدمة علوم الدين والفقه والتاريخ والفلك والحساب والجبر والعلوم الأخرى. وتُعد الكراسي العلمية التي تبلغ 16 كرسيا وأستاذية وزمالة تحمل اسم جلالته والمنتشرة في شتى الجامعات العالمية، وجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب - الأعلى نَسَبًا وقيمة - نموذجين دالين -على سبيل المثال لا الحصر- على الاهتمام السامي بالمعرفة والعلم والثقافة.

mohamed102008@windowslive.com