أمُّ أبيها

عبدالله العجمي

 

إنّ محاولتنا عيش التاريخ في شخصية كانت تمتلك كمّاً هائلاً من العطاء الروحي والحركي والفكري؛ يعتبر بمثابة الوعي بتلك الشخصية، فالمولى عزّ وجلّ أراد أن يكون لقصص التاريخ انعكاس بما تحمله من إيجابيات وسلبيات على كافة تفاصيل حياتنا.. لذلك فإنّه أراد منا الاطلاع على التاريخ بأكمله، سواءً كان هذا التاريخ يسرد حياة أشخاص أو يقصّ علينا حوادث أمم لأخذ العبرة ورسم مسارات الحياة..

ولعلّ أفضل ما يمكن أن يخرج به أي إنسان من خلال دراسته لأي تاريخ هو "العِبرة"، فيأخذ من ذلك التاريخ ما يمكن أن يستمر له، ويترك ما يمكن أن ينتهي بانتهاء ذلك الزمن، لتترجم هذه العِبرة في حياته، ونرى آثارها في علاقاته بالغير وتعاملاته مع من حوله، بأن يعيش الإنسان بمعناه الأسمى، ويترك خلفه أثراً خالداً كدمعة مسحها عن خدِّ يتيم، أو فرحة رسمها على وجه فقيرٍ، أو حلاً لمشكلة.. أو قضاءً لحاجة مؤمن، بشرط أن يوقن أنّ: "ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ".

أستحضر اليوم شخصية جليلة جسدت كل المعاني التي ذكرناها، إنّها أمّ أبيها فاطمة بنت محمد عليها وعلى أبيها وآله السلام، والتي تحتّم علينا ونحن نستحضر سيرتها أن نعيش معاني تفوق الإنسانية بمراحل، فقد شقّت طريقها في الطريق إلى الله بأنقى ما في الروحانية من صفاء، وتحرّكت في حياتها بأعلى ما تحمله المسؤولية من مبادئ، كانت روحها ترق أنسَنَةً، وتذوب وهي تحلّق مع الله جلّ وعلا، ورغم أنّها مرّت بظروف خاصّة انفردت بها وحدها إلا أنها -رغم ذلك- كانت تجمع نساء المدينة في بيتها لأجل تعليمهنّ وتثقيفهنّ بما كانت تسمعه من أبيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، كانت تحمل على عاتقها مسؤولية بثّ روح الثقافة في بيوت المدينة المنورة، واستمرّت على هذا المنهج حتى مع مرحلة ما بعد وفاة أبيها مع ما أحاطت بها من ظروف وتعقيدات كثيرة.

ويمكن أن يشعر القارئ لسيرتها عمق فهمها لفلسفة التعاليم الإسلامية، ولها في ذلك خُطبٌ وأحاديث، فقد وقفت - ذات مرة- تلقي محاضرة قيّمة خلدتها كتب السِّير وهي في عمر الثامنة عشرة على أشهر الروايات، اشتملت خطبتها على عمق الأسرار الوحدانية، وتفسير لبعض حركات الواقع من حولها، مستشهدة بآياتٍ من القرآن، وربطت بعضاً من أسراره بالحكمة من سنّ الكثير التشريعات الفقهية، وقد أبرزتها هذه الخطبة كعالمة جليلة تمتلك من العلوم ما تنحني الفلسفة أمام منطقها، ويفخر المنطق أنه إليها ينتهي..

إنسانة لم يُنصِفها التاريخ حقاً، فقد عاشت جسداً وروحاً مع الله وهي في كنفِ والدها المصطفى، وعاشت جسداً وروحاً مع الله وهي في كنف بعلها المرتضى، وعاشت أعمق ما في الأمومة من وعي وتربية وجهد، وأي أمومة تلك التي خرّجت لنا كريماً كالحسن، وأبرزت لنا زكيّاً كالحسين وحوراء كزينب!

كانت بنتاً كأبرّ ما تكون البنات، وزوجة كأوفى ما تكون الزوجات، وأمّاً كأحنّ ما تكون الأمهات، كانت مسلمة ومجاهدة بالقول والفعل والصلابة كأشجع ما تكون المجاهدات.

عاشت السيدة فاطمة الزهراء حين عاشت وهي طفلة لكن ليس كبقية الأطفال، فقد استطاعت أن تصل بعقلها مستوى أكبر من مستواها، عاشت طفولتها مع أبيها مستشعرة مسؤوليتها، فكانت الحنونة على أبيها بعد فراق أمه، وكانت تبشّ في وجهه حالما يعود إلى بيته، وكأنها تحاول بالمقابل أن تعوّضه فقد زوجته وأمها السيدة المخلصة خديجة بنت خويلد، وحين كان هو وحده في بيته ولم يكن معه إلا عليٌّ وفاطمة، كانت الزهراء تختزل شخصية أمها في شخصيتها، فكانت تمدّه بعطف أمه، وعطف زوجته، كانت تملأ حياته حبّاً وعاطفة وإخلاصاً، فكان دائما ما يستشعر ذلك كله ويطلق عليها: "أمُّ أبيها" ..

إنّ مكانتها تكمن في أنّها عاشت في كنف الإسلام الأصيل، وجسّدت هذا الانتماء في قولها وفعلها، إنّها -حقاً- قدوة للرجال قبل النساء، لذلك فإن سردنا وتذكرنا لحياة شخصيات كبار، هو أننا نكبر بهم، لقد أدّوا دورهم في هذه الحياة، وعلينا أن نقوم نحن بأدوارنا ونتحمّل مسؤولياتنا.

abdullah-alajmi@hotmail.com