تغييب الانعكاسات الاجتماعية

 

د. عبدالله باحجاج

استقبلنا قرار تأجيل تطبيق رسوم البلديات إلى بداية يوليو المُقبل بتحفظات موضوعية كبيرة، تتداخل أهميتها في سلم بنائنا لهذا المقال، ربما علينا البداية من المشاعر والعواطف المتجاهلة في القرار، فشهر يوليو ينبغي أن لا يرتبط سوى بكل شيء جميل، ولا ينبغي أن يتزامن معه سوى الإيجابيات فقط، وذلك لروعة ذكرياته، وأحداثه الخالدة في مسيرة نهضتنا المباركة، لذلك، لا ينبغي أن يُعكر المرور السنوي لشهر يوليو أية خلافات أو اختلافات، إلا إذا كانت عملية تقييم قرارات رسوم البلديات ستشهد تغييرات وتحولات في الرسوم، ولن تكون كذلك إلا إذا تم إلغاؤها في مجالات، وتقليص حجمها المرتفع في المجالات الأخرى.

وهذا لن يحدث وفق المأمول، وهذا يعني ترحيل الخلافات إلى يوليو، وهذا في حد ذاته يثير التساؤل حول غياب الوعي بالمرور السنوي ليوليو، فقرار التأجيل يحمل بقاء الخلافات مسبقًا، منها- أي الخلافات- ما هو مفترض من حيثياته، ومنها حتمي الوقوع فعلاً، وهذا الأخير نجده في قضية تغييب الانعكاسات الاجتماعية من عملية إعادة تقييم رسوم البلديات. فالفريق المشكل للتقييم جاء مستبعدًا لمُمثلي البعد الاجتماعي، وذلك عندما حصر أعضاء التقييم في غرفة تجارة وصناعة عمان ووزارة البلديات الإقليمية وموارد المياه، وبلديات مسقط وظفار وصحار لتقييم الآثار المترتبة على قرارات الرسوم خاصة على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، علماً بأنَّ هناك انعكاسات سلبية لهذه القرارات على المجتمع، فلماذا لم نجد ما يمثل المجتمع في هذا الفريق؟ هنا يبدو أن الجهات الحكومية تعيد الخطأ نفسه، بسبب قصورها في استيعاب الانعكاسات الاجتماعية من القرارات البلدية الأخيرة، فهل كان ينبغي أن يرفع المجتمع صوته عاليًا كما فعلت الغرفة "الأم" وبناتها في مختلف محافظات البلاد؟ فعندما رفع عالياً هذا الصوت، تداعى له مكتب مجلس الشورى، وصدر بيان يُعبر عن الموقف نفسه للغرفة، وسريعًا، صدر قرار التأجيل إلى يوليو المقبل، فهل كانت هذه القضية مدركة عند اتخاذ القرار أم غائبة أو مغيبة؟ وهي لا تقل شأنا عن الانعكاسات السلبية على قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

كان ينبغي أن يتكون هذا الفريق من ثلاثية التمثيل، وليس من الثنائية، كأن ينضاف إليه ممثلون عن المجتمع، مثل المجالس البلدية المنتخبة أو حتى مجلس الشورى، فمصلحة المجتمع ينبغي أن تكون ممثلة في الفريق الاستقصائي أسوة بشريكيه الحكومي والخاص، وإلا فإنَّ لسان حال التغييب ينطق باللسان العربي الفصيح، قائلاً: "إننا سننقل الاستياء بالوسط الاقتصادي إلى الوسط الاجتماعي في يوليو المقبل"، وربما يسود الاستياءان معًا في يوليو في حالة عدم الخروج بمرئيات واقعية عن الانعكاسات الاقتصادية على قطاع الشركات وبالذات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. فالرسوم الجديدة تفصل تفصيلاً دقيقاً لكل قطاع، وبالذات الأنشطة والممارسات المجتمعية التي لا تصنف كدخل أكثر منها تجارة، فمثلاً، هناك رسوم كل أنواع الحيوانات، ومجموعة رسوم مستقلة على أصناف الفواكه والخضروات... دون العلم هل بإمكان مربي الإبل مثلا دفعها أم لا؟ وهل ينبغي من المنظور الاجتماعي فرضها؟ وهل لدى صناع القرار معرفة مسبقة بانعكاساتها النفسية على حرفة متوارثة عبر مسيرة الأجداد؟

من هنا نرى من الأهمية بمكان تقييم الانعكاسات الاجتماعية للرسوم الجديدة، بصورة متزامنة مع انعكاساتها على المؤسسة الصغيرة والمتوسطة، وإلا، فإنَّ المشهد سيبدو كمن ينظر للمشكلة بعين واحدة، أو يفتح حواسه الخمسة للتجار دون المجتمع، رغم أهمية الاستماع والانصياغ والمشاهدة والإحساس بمعاناة القطاع الخاص من الرسوم الجديدة، ففيها في ذاتها انعكاسات اجتماعية مباشرة وغير مباشرة، لن نختلف على القرارات وانعكاساتها السلبية على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ولا يُمكن تجاهلها، وهي- أي الانعكاسات- تتعارض مع توجهات الدولة التي تدعم الشباب "ماليا وفنيا ومعنويا" على تأسيس مؤسسات صغيرة ومتوسطة، فكيف تعمل قرارات البلديات الآن على دفعها إلى الإغلاق برسوم الكثير منها فوق الواقع؟ لن ينكر أحد هذا المصير لو لم يتم تأجيل تطبيق الرسوم، لكنه يظل مصيرًا مؤجلاً، وليس ملغيا. فلدينا معرفة يقينية بشاب في الخامسة والعشرين من عمره، افتتح قبل عامين مؤسسة صغيرة للأثاث، ونوى تقديم استقالته من العمل للتفرغ لعمله، لكننا نصحناه بإجازة عام دون راتب حتى يتأكد من مساره الجديد، ففعل بنصيحتنا، وبعيد إعلان الرسوم، جاءنا شاكرا على النصيحة، مقررا إغلاق محله بسبب ما يقول إنه سيدفع رسوم بلدية (1000) بدلاً من (100) ريال، وأخرى بيئية، يقول هذا الشاب إنها تبلغ (750) ريالاً، وأخرى رسوم للتجارة والصناعة، وهذا اغتيال للطموحات، ووأد لسياسات الدولة السابقة، ومن ثم لقطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ولسنا ندري الأسباب التي تقف وراء هذه الرسوم، لكنها من المؤكد لن تكون بسبب هيمنة الوافدين على مثل هذه القطاعات، والاستفادة من تحويلاتهم المالية للخارج، ولو كانت كذلك فهي تضرب المواطن كذلك. لم توجه لنا الدعوة لحضور المؤتمر الصحفي الكاشف لهذه الأسباب، لكن، كل من حضره، خرج بعدم اقتناعه بالأسباب والدوافع، وبالتالي، تفسيرنا لها، بأنها تمثل أكبر شطط في توجهاتنا الجبائية، قد وقعت فيه البلديات، شطط سيفقدنا ميزة المحافظة على منجزاتنا التراكمية "العددية والنوعية" التي عملت الحكومة على تحقيقها طوال العقود الماضية، وبالتالي، لابد من مُعالجة هذا الشطط على وجه السرعة، وبصورة شمولية، ومن كل الأبعاد، بما فيها البعد الاجتماعي "الغائب الحاضر"، فقرارات البلديات لها وجهان اقتصادي واجتماعي، وتغييب هذا الأخير، لن يمكن ذلك الفريق من احتواء كل التداعيات، ربما ينجح في التداعيات على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة فقط، لكن ماذا عن تداعياتها الاجتماعية؟

إننا في عصر الشراكة الثلاثية وليس الانفراد، فمرحلته قد ولت بعد التحولات في مفهوم ودور الدولة، فمثل هذا الانفراد، كان يصطبغ على مرحلتنا الماضية بسبب ظروف الدولة وإدارتها للثروة والمصالح الاقتصادية، وإعادة توزيعها وتدويرها، ولما غُيب الشريكان الآخران، فماذا كانت النتيجة؟ تأجيل القرارات، وهذا أكبر مثال على انتهاء مرحلة الانفراد بالقرارات، وأكبر تأكيد على قدرة الشريكين الآخرين على تعطيل أية قرارات وسياسات ناجمة عن الانفراد بها.. فهل هذا يدعونا الآن إلى إشراك الشريك المجتمعي في عملية تقييم قرارات رسوم البلديات أم سنتجاهله مجددا؟ والنتيجة ستكون حتمًا، التراجع مرة أخرى، لأنَّ المجتمع معادلة صعبة لا يُمكن تجاهلها أبدًا، وتزداد صعوبتها الآن في عصر الضرائب والرسوم الذي يحتم أن يكون شريكا حقيقيا، لا صوريا.