الكتب .. القوة الناعمة المفترى عليها

د. سيف بن ناصر المعمري

فرقٌ كبير بين أولئك الذين يحملون السلاح ويغتالون الحياة الإنسانية، وبين أولئك الذين يحملون الكتب التي تنهض بهذه الروح الإنسانية وتجعلها أكثر مُقاومة في مواجهة قوى الخداع والتضليل والاستغلال..

لم نجد يومًا كتابًا محشوًا بالرصاص أو الكوكايين أو غيرها من السموم التي تغتال الإنسان شيئا فشيئًا من خلال شل قدرته على التفكير، وتغييب وعيه عن التبصر فيما حوله، لم نجد يوما كتابا أحدث دمارا شاملاً كما تحدث كثير من الشركات والجيوش وقوى الظلام، لم نجد يومًا كتابًا قاد إلى أزمة اقتصادية أو اجتماعية، بل وجدت أن الكتب هي مفتاح لحل الأزمات ووسيلة للتنوير وبناء مجتمعات حية عصية على الاستغلال الفكري.. فحين تنتشر الكتب في بلد ما في كل مكان في المدن الراقية والحارات القديمة في واجهات الشوارع الرئيسية وفي ممرات الشوارع الداخلية الضيقة، فاعلم أنَّ ذلك البلد يتحرك إلى الأمام وتتدحرج كرة الوعي فيه وتكبر ويصبح شغل النَّاس هو مُناقشة الأفكار والمسائل والقضايا بدلاً من أن يكون همهم وشغلهم مناقشة الناس، وبالتالي يرقى فكرهم ويصبح إسهامهم في بناء حياتهم ودولتهم أكثر عمقاً وأبلغ أثرًا، دولة تحكمها الكتب خير من دولة تحكمها المادة والمظاهر والاجتهادات الضيقة.

هل لا تزال مُجتمعات تخاف من الكُتب والكُتاب؟ هذا سؤال يطرح كثيرا خاصة في مجتمعات لا تزال غير قادرة على التسامح مع فكرة يحملها كتاب، وتنظر إليه على أنه قنبلة يمكن أن تحدث دمارًا شاملاً في العقول غير الحصينة على التأثر، هذه العقول التي يجب توفير حماية خاصة لها، خشية عليها من التشكيك في معتقد ما تؤمن به أو خشية من هدم حقيقة زرعت بداخلها أو خشية من بناء وعي مضاد لما هو سائد؛ حيث يتحول الكتاب إلى حجر ضخم يلقى في بحيرة راكدة فيحدث سقوطه فيها حركة في كل الاتجاهات تتشكل خلالها دوائر تتسع شيئاً فشيئًا وتطرح الأسئلة وتحتدم للنقاشات وتبنى آراء جديدة حول قضايا يعتقد البعض أن النقاش حولها قد حسم وأن الحقيقة تقف في قمة عالية لا يمكن لأحد أن يصل إليها ليكشف زيفها من واقعها، أنه الكتاب الذي يمثل سلطة ليست ضعيفة، كما يرى البعض، إنما سلطة ناعمة تستهدف العقول لتنيرها وتحييها وتجعلها عقولاً منتجة في زمن تتحكم في العالم سلطة المعرفة؛ حيث توجد مجتمعات تصنع وأخرى تستهلك المعرفة.. أما مملنا من أن نكون مستهلكين لكل شيء ونحن مجتمعات حية كان لها السبق في صناعة المعرفة الإنسانية.

إنَّ معارض الكتب التي تقام بشكل دوري في العواصم العربية تثير دائمًا أسئلة حول الحرية والمعرفة والنقد ودور الدول في صناعة عواصم صديقة للثقافة والكتب، دول تفتح أحضانها وحدودها للكتب والكتاب وتعلي من شأنهم وتفسح لهم المساحات في الصحف اليومية وفي البرامج الإذاعية والتلفزيونة تحتفل بالكتاب وولادته كما تحتفل بافتتاح الفندق والميناء وسكة الحديد، دول تسلح الكتاب بالعناد الذي يحتاجونه كما تسلح الجيوش بالملايين فالكتاب هو الجندي الذي يخوض معركة لا تنتهي وهي معركة التنوير وبقدر الانتصارات التي يحققها بقدر ما تخرج هذه المجتمعات من الواقع الذي تعيشه وهو صراع مع الأزمات التي لا تنتهي، دول تمنح الكُتاب جوازات خاصة يعبرون بها إلى كل مكان بدلاً من أن تفتش حقائبهم ومضامين كتبهم وتقصص ما تشاء فيها وكأن هذه الكتب هي مصدر كل هذه الأزمات، إن الحق في النشر والمعرفة وحرية التعبير وتداول الكتب واستقلالية التفكير هي حقوق طبيعية للإنسان لم تعد موضع نقاش وتفسير وتأويل إلا في المجتمعات التي لا تزال تخشى من الكتاب، ومجتمع يخشى من الكتاب هو مجتمع يخشى من المستقبل ومن النور الذي يمكن أن يشع من هذا الكتاب، افتحوا الحدود وحرروا العقول ستجدون مجتمعاً ينافس الدول المتقدمة في إنتاج المعرفة.

أكتب هذا المقال من ساحات معرض مسقط الدولي للكتاب قبل ساعات من إسدال الستار على هذه الدورة التي شهدت مزيدًا من الزحف الفكري العماني للتواجد كصناع للمعرفة بدلاً من استهلاكها لكنه زحف لا يزال بطيئاً جداً لا يتناسب والخطط المستقبلية التي تعدها البلد.. نعم هناك نضال من أجل الاستمرارية من قبل المؤلفين كأفراد ومن قبل مؤسسات النشر القليلة، وبالتالي يبدو أنَّ هذا الحدث الثقافي يعد فرصة كبيرة لفتح النقاش حول مملكة الثقافة العمانية وما تحتاجه لكي تزدهر من مراجعة للتشريعات ومن تقييم لدور المؤسسات الثقافية الرسمية والمدنية الفاعلة ومن تهيئة فرص لمنصات تتيح حركة الكتاب، فالكتاب ليس سلعة اقتصادية هو منتج ثقافي يقوم بدور مهم في النهوض بالمجتمع وبالتالي لابد من تيسير الطرق لحركته وحركة المشتغلين عليه.