إفريقيا: النضال لا يمنح الفساد صك الغفران

محمد علي العوض

قديمًا قالها -ضِمنيا- الكيني الجنسية وذو الأصل العُماني البروفيسور علي المزروعي: "معظم تجارب ثوار إفريقيا في الحُكم انتهت إلى فشل؛ فحال دولهم كانت أفضل تحت الاستعمار الأجنبي".

فبعد 37 عاما عقَّ الأبناء "بابا زيمبابوي" حينما طالبتْ الجموع الثائرة الرئيس موغابي بالتواري عن المشهد السياسي، والتنحي عن سُدة الحكم.. لم تشفع لموغابي التسعيني قيادته ثورة ضد نظام إيان سميث العنصري، تُوّجت بولادة جمهورية زيمبابوي المستقلة أبريل 1980م. ولأن السلطة مفسدة -كما قال محمد عمارة- فقد تحول الزعيم الثائر والمحبوب لدى شعبه إلى حاكم مُستبد، حتى وصل به الأمر أن قال إنّه باق في الحكم حتى "يقول الربُّ كلمته".. بل وصل الأمر بزوجته -التي تصغره بأربعين عاما- أن تصف إيمرسون نائب الرئيس موغابي بأنَّه "ثعبان يجب أن يُضرب على رأسه". وبالفعل، في اليوم الثاني مباشرة طار رأس منصب إيمرسون. ولأن النكوص عن الديمقراطية واستبدالها ببضاعة الاستبداد الكاسدة هو كفر صراح في نظر الشعوب، فقد استحق موغابي من شعبه تشييع حقبته السياسية وسط سيل من اللعنات والهتافات المضادة، رغم محاولاته المستميتة التمسك بالحكم، واستخدام سلاح العناد والمزايدة بتاريخ نضالاته ضد المستعمر، دون أن يعي أن الشعوب باتت تفهم أنَّ النضال لا يمنح الفساد مسوِّغا أو صك غفران.

جنوب القارة، في مشهد دراماتيكي قريب من ذلك، طالب حزب المؤتمر الوطني الحاكم رئيسه الجنوب إفريقي جاكوب زوما بالتنحي عن الحكم، وعدم البصق أكثر على تاريخه النضالي، وكانت المآخذ هذه المرة الفساد؛ الوجه الآخر من الاستبداد، وتمثل ذلك في اغتصاب زوما شابة مريضة بالإيدز؛ في وقت كان يرأس فيه الهيئة الوطنية لمحاربة الإيدز، وإسرافه في إجراء إصلاحات في منزله في ضاحية نكوندلا على حساب دافع الضرائب بتكلفة 24 مليون دولار، بجانب علاقة مشبوهة بأسرة قبتا الثرية، وقبوله رشاوى ضمن صفقات شراء أسلحة من بعض مصدري الأسلحة، إضافة إلى عرقلة العدالة القضائية بعدم تنفيذ قرار محكمة الاستئناف العليا في البلاد بخصوص الرئيس السوداني عام 2015م.

شرق القارة، وتحديدا إثيوبيا؛ استقال المهندس الأكاديمي هيلي مريام ديسالين، بعد أن قاد بلاده في مرحلة حرجة، وفي مجتمع يمور بالتجاذبات واختلافات إثنية وعرقية ودينية حادة، ولم تدفعه نجاحاته وجعله إثيوبيا أكثر الاقتصادات نموًّا في إفريقيا لجعل أصابعه في أذنيه لصمِّها عن أصوات الاحتجاجات والمظاهرات ومواقف العصيان المدني التي قابلتها الحكومة بالقمع والاعتقالات؛ فقرر ببساطة ودون أدنى تكاليف أو خسائر في الأرواح أو الممتلكات أن يرمي بصولجان السلطة، وركل كرسي الحكم؛ متمنيا أن تكون استقالته إيذانا لعهد جديد من السلام المستدام والديمقراطية.

القواسم المشتركة بين نماذج التغيير السلمي الثلاثة، تتمثل في أن الأحزاب الحاكمة في هذه الدول أخذت جانبَ الاصطفاف مع شعبها، والتضحية بالرؤساء بدلا من الشعب وإراقة الدماء، مطالِبة الحُكَّام بالرحيل درءًا لثورة شعبية لا تبقِي ولا تذر.

يُلَاحظ أيضا أن الجيوش لم تقفز للاستيلاء على السلطة حينما لاحت لها هشاشة الوضع السياسي، بل كانت عينا حارسة لشرعية التغيير السلمي، وإن كان الجيش في زيمبابوي قد مارس بعض الضغط على موغابي حين أخذته العزة بالعناد.

استجاب الرؤساء الثلاثة لمطالب الشعوب برغم العناد الذي شكل ديكورًا خلفيا -خفيفا- للمشهدين الأولين، ربما لعوامل السن، وطول التربع على سدة الحكم، واتكاءً على التاريخ النضالي لموغابي وزوما ودورهما في حركة مناهضة العنصرية والاستعمار.

لقد حرصتْ التنحيّات الثلاث على عدم تقويض الديمقراطية التي بدأت ترسِّخ أقدامها أكثر في عُمق التربة الإفريقية؛ فقد اعتبر ديسالين أنّ استقالته حيوية في محاولة تنفيذ إصلاحات من شأنها أن تؤدي إلى سلام وديمقراطية مُستدامين، بينما اعتبر زوما استقالته جاءت لعدم قبوله إزهاق أرواح بسببه، أو أن ينقسم حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، مؤكدا أنّ التصويت بسحب الثقة أو العزل آلية قانونية من حق الشعوب؛ وإن كان يتمنى الرحيل بالطريقة المنصوص عليها في الدستور.

وتشير النماذج الإفريقية هذه إلى وعي الأفارقة بإمكانية التغيير والتداول السلمي للسلطة، دون أي هزّة للنظام القائم، وأن لغة السلاح في إفريقيا في طريقها إلى الاندثار، وأنّ شعوب القارة السوداء لم يعد بمقدورها إعادة تدوير الفشل، والسكوت على فساد الحكام؛ فالنضال لا يَجُبّ ما بعده من فساد.

وكما يقول الإمام الصادق المهدي: هذان درسان إفريقيان لعالم عربي يلصق رؤساءه على مقاعد الرئاسة عشرات السنين، رغم إخفاقات كاسحة، ورغم نصوص دستورية مانعة، ولا تفصلهم من المقاعد إلا الثورات أو الممات.

Mohamed102008@windowslive.com