د. عبدالله باحجاج
جاءني أبوه، متسائلا: ماذا أفعل بابني؟ وابنه قد حقق درجة الامتياز بمرتبة الشرف في أحد التخصصات العلمية، ويشعر هذا الأب الآن بأنه يقف عاجزا عن إقناع ابنه بالتسليم بالواقع المتجاهل له، بل إن هذا الأب -وفي حالات كثيرة- يشعر بالخجل من ابنه، فقد كان يحفزه على الإبداع والتفوق، عبر غرس -في ذهنيّته- مقولة أنّ المستقبل في العمل سيكون للنابغين أولا، وقد وفر هذا الأب لابنه البيئة المواتية للتفوق، وسخر له كل إمكانيّاته المالية والمعنويّة لكي يحصد الامتياز مع مرتبة الشرف.
التقيت بابنه ولمست منه نفسية محبطة، فقد كان يظن أنّه بمجرد أن يحصد ذلك الامتياز بمستواه الشرفي، سيمكنه من الحصول على وظيفته فورا، أو في الآجال الزمنية المعقولة، لذلك اشتغل على نفسه كثيرا، وواصل جده باجتهاده، وسخّر جل وقته لتحقيق هدفه، وبعد تخرّجه كان يظن أنّ الشركات والمؤسسات ستتهافت عليه وأنّه سيفاضل فيما بينها، وأنّه سيفرض شروطه عليها. في كل يوم يستيقظ من الصباح الباكر، وبين كل ثلاث ساعة صباحا يتأمل في هاتفه؛ لعل شركة ما، أو مؤسسة ما، تتصل به، وتوجه له فرص عمل.. هو هكذا الآن لمدة عام، وقد كان يظن، كان يظن.. لكن خاب ظنه، فلم تبحث المؤسسات ولا الشركات عن الأوائل في الجامعات ولا الكليّات، وغرقت شروط استحقاقات الوظائف في بيروقراطية ميكانيكية خالية من أية اعتبارات متعارف عليها، فمعيار التنشيط، وشروط المنصّات الإلكترونية، لم تعتد بالمجيدين، ولا أولئك الذين حطموا النسب المئوية للنجاح؛ وزاده إحباطا ويأسا أنّه كلما زار موقع عمل يناسب تخصصه في إدارة المطارات، يقولون له لابد أن تأتينا عبر تارجيت وميرا.
أتدرون معنى هذا؟ إنها تقتل الطموح عند الطلبة في مقاعد الدراسة، وتحولهم إلى مشاريع لعبور المراحل بأدنى النسب، وبأقل الجهود، إذا كان الإبداع والتفوق ليس لها قيمة اعتبارية في الأولويات، وإذا كان يتساوى المتفوّق بدرجة الامتياز أو الأوائل على دفعاتهم مع المقبولين، يندب هذا الشاب حظه كثيرًا، على تعبه في الخمس سنوات دراسية وعلى سهر الليالي، وجده واجتهاده على عكس غيره، الذين لم يشتغلوا على أنفسهم كثيرا، وقد سبقوه في الحصول على الوظيفة؛ لكونهم كان لهم السبق في تسجيل أسمائهم في سجلات القوى العاملة أو نشطوا قبله، حتى اختبارات التعيين قد تجاهلت هؤلاء المتميزين، بل إنّ المسألة أكبر بكثير من التجاهل والإهمال، تصل إلى مستوى انعكاساتهما على الطلبة وهم على مقاعد الدراسة، فأيّة دافعيّة ستحفزهم، وستظهر قدراتهم، وتكشف لنا نوابغهم؟ حالة هذا الشاب، هي نموذج، للتداعيات المنظورة والمستقبلية، فقد وصل به التداعي إلى أن يفقد الإحساس بمنجزه الذي رسم له أول ملامح النجاح والتفوق في حياته، فهل ينبغي أن يتحطم فوق صخر الأولوية للأقدمية في التسجيل والتنشيط في حالة النجاح في التعيين؟
لمّا سألت مدير عام القوى العامة بمحافظة ظفار عن سبب تجاهل المتفوقين أجاب قائلا: إنّ هذا يرجع إلى الشركات والمؤسسات نفسها، فهي التي وضعت هذه الشروط، عندها تبين لنا من هذا السياق نفسه، أنّ وراءها إيادي تعاني من مشكلة بنيوية تراكمية في تاريخية دراستها، مما أصبت بعقدة مزمنة من التفوق نفسه، بصورة مجردة وعامة، لذلك، تكره كل متفوق في ذاتية هذه المفردة، أي بعيدًا عن الشخصنة.
إذا ما ذنب المتفوقين والنوابغ من أبنائنا إذا كانت هناك قيادات قد أخفقت في دراستها ولم تحصد التفوق، ومن ثم ابتليت بعقد نفسية محكمة ومستحكمة؟ كيف نترك لها زمام الأمور في تحطيم بيئات التفوق في بلادنا من جهة، وتطفئ أنوار مستقبلنا المضيئة؟ فإحباط المتفوقين وتداعيات شعورهم بالتجاهل والتهميش، هي قضية عامة، لا تقتصر على هذا الشاب فقط، وسينتقل إلى الطلبة فهؤلاء المتفوقين يعيشون في بيئات متعددة من بينها – الأسر – وفيها أبناء على مقاعد الدراسة، ولديها علاقات جوار، تتسع مداها – من جار إلى جار – إلى أن يتشكل المجتمع في امتداد الإحباط واليأس، وهم يشاهدون المتفوقين مجردين من أوسمة الاستحقاق، كما يعيشون في بيئات أكبر، بيئات العمل نفسها، وأحاديث المجالس، فرسائل التجاهل والتهميش، من المؤكد أنّها ستصل إلى مقاعد الدراسة في كل الصفوف، والجامعات والكليات؛ مما ستؤثر حتميا على النفسيات، وسيقل بالتالي مستوى الجهود المبذولة عند الطلبة. إذا كان سيكون مصيرهم مثل ممن سبقوهم.
ليس من المصلحة الوطنية في حاضرها ولا في مستقبلها أن نجعل الجيل الحالي من المتفوقين في مختلف مجالات العلوم والمعرفة يشعر بالتجاهل والتهميش، وينبغي المسارعة إلى وقف اغتيال الطموح؛ حتى لا يسري مفعوله عند الجيل المقبل، ليس هناك مصلحة خاصة ولا عامة تجعلنا نقبل بهذا الوضع، حتى على مستوى العمل داخل المؤسسات والشركات نفسها، فهي ستكون المتضررة كذلك، كيف؟ فمن المؤكد أنّ من يجتهد ويشتغل على نفسه طوال مسيرته الدراسية بما فيها الجامعية، ويحقق التفوق العلمي، سيواصل مسيرته المتميزة في حياته الوظيفية، والعكس صحيح، ولكل قاعدة شواذ، فعملية التأسيس والتأطير، وتاريخية الالتزام فيها، والتفوق طوال مشوارها، ترسخ المسارات المهنية والأخلاقية في الكينونات الإنسانية، وبالتالي، تصبح هذه قيمة جاذبة تكون لها الأولوية، على عكس مما يحصل لها الآن خلال المرحلة الراهنة، وقد كانت بعض الشركات سابقا تتسابق على اجتذاب الأوائل في التخصصات العلمية، فماذا جرى لها الآن؟ لابد من عقول الدولة أن تتدخل فورا اعتدادا بالنابغين ودون إسقاط حقوق الآخرين، لكي يساهم الكل في تقدم الوطن وازدهاره، والا، فإنّ التجاهل والإهمال للنابغين، ليست الأوسمة المستحقة لهم، بل هي معاول هدم نجاحاتهم.. والله يكون في عون هؤلاء المبدعين، وأولياء أمورهم الذين نشعر مثلهم، بثقل وعبء المبدع المحبط، والدعاء نفسه لكل باحث عن عمل وأولياء أمورهم، فلكل قد أصبح يحس بالثقل النفسي والمالي خاصة الآن في مرحلة الرسوم والضرائب ورفع الرسوم وفرضها على الكثير من الخدمات الحكومية، وعام 2019، قادم بتحديات أكبر.. للموضوع تتمة.