"العجين قبل الدين"

محمد علي العوض

عزا رئيس أحد الأحزاب الإسلاميّة في السودان نجاح التجربة الإسلامية التركية "اقتصاديا" وفشلها في بلاده إلى أنّ الأولى نجحت لأنّها قدمت "العجين على الدين"؛ بينما عكست الثانية النظريّة، رغم أنّ التجربتين تخرجان من مشكاة واحدة.

الذاكرة الثقافية السودانية تحفظ مقولة "العجين قبل الدين" وغيرها من مقولات تصب في ذات المنحى؛ مثل: "أكان ما عجيني منو البجيني"، و"لو ما الكِسرة ما جات الناس مُنكسرة"!!، وتعني في لُبَّها أنّ أي مشروع فكري/إنساني لا يحقق قدرًا من ضروريات الحياة سيكون محكوما عليه بالفشل. وتُنسب مقولة "العجين قبل الدين" للشيخ الصوفي فرح ود تكتوك، الذي عاش في السودان قبل أكثر من 500 عام، إبّان حقبة السلطنة الزرقاء؛ حيث تقول القصة إنّ الشيخ فرح صادف فقيهاً يعلّم أطفالاً القرآن يكادون يخرقون بطونهم من شدّة "الكرفسة"، فنصحه الشيخ فرح بعبارة: "يا شيخنا، العجين قبل الدين".. والكرفسة تعني ضم الرِّجلين إلى الصدر من شدة الجوع أو البرد. وفي "لسان العرب" تَكَرْفَس الرجل: أي إذا دخل بعضه في بعض.

رُبما يَرَى بعضهم في المقولة تقديرًا خاطئا أو تجديفا حتى؛ لكن ببساطة شديدة جدا المقولة تعني أولوية وأد الجوع على وأد الجهل، وأنّ إشباع البطن مقدم على إشباع الروح والفكر. وتكاد تجمع كل الأمم على تقديم الخبز على الأخلاق؛ لأنّ الحاجة عدو الخلق القويم، والدافع الأكبر لاقتراف الأوزار، وربما إشهار السلاح من أجل سد غائلة الجوع، وقديما نُسبت إلى أبي ذر رضي الله عنه: "عجبت لمن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج للناس شاهرا سيفه"؛ وإن كان العجب من الشيء لا يعني الرضا به. وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر، والعلماء يقولون: "كاد الفقر أن يكون كفراً"، ولا يزدهر الفساد السلوكي والمالي إلا في حضن البيئات الفقيرة شحيحة الموارد.

دولة "الشريعة" في المقام الأول تقتضي توفير الأمن الغذائي على ما سواه من مختلف أنواع الأمن الأخرى؛ سواء كان أمنا فكريا أو عامًا، مصداقا لقوله تعالى: "فليعبُدُوا رَبّ هذا البيتِ الذي أطعمَهُم مِنْ جوعٍ وآمنهم من خوف". وذيوع الدين في المجتمع لن يتأتى إلا من خلال اقتصاد الوفرة ورخاء الأسعار؛ إذ كيف تُصلي وتحج وتدفع زكاتك وتقوم آناء الليل وأطراف النهار بمعدة خاوية وجسد نخره الجوع وهدّه المرض؟ بعضهم يزايد على توفر الرزق "الاقتصاد" بعبارة التوكّل؛ ولن تجدي المزايدة هنا؛ لأنّ التوكّل في أبسط مفاهيمه يعني صدق الاعتماد على الوهّاب مع الأخذ بالأسباب، فرحلة الطيور الموسميّة مظهر طلب وسبب، وهجرة الحيوانات في غابات إفريقيا المدارية بحثا عن موائل جديدة يدخل أيضًا في نطاق الأخذ بالأسباب؛ وحديث "اعقلها وتوكل" خير استدلال على الأخذ بالأسباب قبل التوكل. وفي هذا يقول سيدنا عمر بن الخطاب: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أنّ السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، إنّما يرزق الله الناس بعضهم من بعض". والفاروق نفسه احتلت إدارة المال -الاقتصاد- حيّزا كبيرا في خطبته حين تولّى الخلافة، بل إنه ابتدر بها حين حدد الأسس التي تقوم عليها سياسته المالية والاقتصادية من مال وزروع وجباية وزكاة وغيرها، قبل أن يدلف بعدها للسياسة الأمنية والجبهة الداخلية ثم الجهاد، ولم ينس رضي الله عنه في آخر خطبته أن يذكّر الناس بأمور دينهم. وتُعد إدارته -رضي الله عنه- لأزمة عام الرمادة وما أصدره من تشريعات تجسيدًا عمليا لمقولة "العجين قبل الدين"؛ حيث تجلّت عبقريّته في فهم جوهر النص المقدس والنظر إلى مغزاه. لقد تفّهم الفاروق حاجات النفس البشرية الضعيفة لذا علّق حد السرقة وأداء الزكاة إلى ما بعد انجلاء الأزمة؛ فسد الجوع عنده كان أولى من تطبيق الشريعة، وقد قالها الفاروق بوضوح: "ما كنت قاطع الناس حتى أشبعهم". لأنّ الغاية هي الإنسان الذي أكرمه الله بنعمة العقل، والذي من أجله قال عمر لبطنه "والله لا تشبعي حتى يشبع أطفال المسلمين".

يقول العلامة محمد الغزالي في كتابه "الجانب العاطفي في الإسلام" في معرض حديثه عن أخطاء العابدين: "من علامة اتباع الهوى، المسارعة إلى نوافل الخيرات، والتكاسل عن القيام بالواجبات"، ويشرح النوافل بأنّها المرفهات، والواجبات بالضروريات: "والمرء لا يشتري لنفسه عدة زجاجات من العطور وهو وأهله بحاجة لأرغفة من الخبز، سد الجوع أولى هذه الزينات". ويرى الغزالي أنّ نفقة حج واحدة من هذه النوافل تكفي لدفع نفقات الدراسة لعدد من الطلاب الفقراء وتفك كربة عدد من المعسرين والغارمين، بل يقول: "لو أنّ الحاج كان تاجرًا واستغل المال في توسع تجارته لدعم الاقتصاد الإسلامي وإغلاق الباب أمام الاقتصاد الأجنبي لكان ذلك أحق من بذل المال في التطوع بحج أو بعمرة".

على حكّامنا الأخذ بأسباب التنمية والحرص على توفير سبل العيش الكريم لرعاياهم، وعدم إلقاء مضامين آية: "ومن يتق اللّه يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" على طاولة الشعوب، في مقابل تملُّصهم منها؛ فالآية الكريمة لو طبقها الحكام، واتقوا الله في شعوبهم لشبع الناس أجمعين؛ فلا حصن أقوى من العدل والأمانة واحترام الشعب.

تقول الطرفة المتداولة بالسودان: إنّ أحدهم سأل مسؤولا كبيرًا عن أسباب تدهور الاقتصاد بالرغم من وفرة الموارد الطبيعية في البلاد، فأجابه المسؤول: إنّ التدهور سببه ابتعاد الشعب عن التمسك بالدين. ثمّ سأله مرة أخرى: لماذا تناصبكم أمريكا العداء؟ فأجابه ذات المسؤول: لأننا شعب نتمسك بالدين!!!!!

mohamed102008@windowslive.com