قصة قصيرة: تغريدة الوهج

ناصر سالم الجاسم - السعودية

 

صباح ممطر بالصخب والوهج نط فجأة على أذني وعيني، استيقظت من نومي واستيقظ معي.. عرفت أنه توأم يشبهني في عادات الأكل والشرب ويذهب إلى الحمام  في نفس الوقت الذي أذهب فيه.. قد يكون من صلبي أو قد أكون من سلالته.. طويت فراشي بيدين تحتاجان إلى الحليب، وظهر مشتاق إلى ماء بارد توصله إلى جسدي شبكة من الأنابيب المخبأة في بطن الأرض.. تساءلت بعقلٍ يفكر في التبغ تائقٍ إلى سيجارة الصباح: لماذا لا يقسم الحزن إلى فترات عمرية تبدأ بطفولة تليها مراهقة يتبعها شباب وتختم بكهولة وشيخوخة.. صنفت حزني اعتباطًا تصنيف باحث تنقصه الحيادية والموضوعية بأنه من النوع المراهق الذي يرفض الانصياع للأوامر ويجدّ في التمرد عليها.. حرثت أسناني المطلية بلون الشاي والنيكوتين بفرشاة طبية.. اكتشفت وأنا أنظر لأسناني في المرآة ملطخةً بزباد المعجون تشابهًا كبيرًا بين الحزن والسوس فكلاهما يمارس النخر متخفيًا.. مشتْ سيارتي ولا أدري من الذي كان يقودها أهو شخصي أم شبيهي؟!! الشيء الوحيد الواضح أمامي أن عداد الكيلومترات فيها يعدو كالخائف من رصاصات مصوبة على رأسه.. لم يكن الموت صعبًا فحوادث الليل ودماء الموتى لم تكنس أوساخها بعد من الطريق وسيثرثر عنها ويتهول منها الموظفون في مكاتبهم وهم يقرأون الصحف اليومية، وينادون على أكواب الشاي والقهوة ويطلبون الساندويتشات.
صغتُ في ذلك الصباح أول سؤالِ حسدٍ في حياتي لما رأيت بعض الزملاء مصطحبين معهم زوجاتهم لإيصالهن إلى مدارسهن، وكان سؤالي: لماذا أنام مع شبيهي وهم ينامون مع الجمال؟
جرحتْ وجهي مذيعة في الراديو بثلاثة سيوف في آن واحد حين مارستْ التصنيف. لقد صنفتْ شبابي إلى ثلاثة أنواع: شباب قلب وشباب عقل وشباب جسد.. لقد أشعرتني بالخواء وبالعدم فطرحتُ عليها معلومة قديمة لعلي بها أنبهها إلى نقص تصنيفها. لقد قلت وشبيهي أخرس يردد في سره ما أقول: "الجبال راسية على الأرض وفي قاع المحيطات". تهربتْ المذيعة من التعليق وأعلنتْ إشارة الوقت الثامنة صباحًا.. مؤشر عداد الكيلومترات أكمل المائة والثمانين درجةً وانفرط عائدًا إلى نقطة ما قبل الصفر.. لقد قضيت على كل ما يشير إلى الخوف أو يجلبه وشبيهي لم يخف منذ أن تمطى حتى الساعة الثامنة. بدأت أستنتج: مدى الأرقام المفتوح إلى ما لا نهاية يشبع الإنسان ويحثه على أشياء جديدة ومجهولة.. انتهتْ المذيعة من قراءة النشرة الإخبارية وملخص الأنباء الموجز وعادت تمارس النصح: "توصل العلماء إلى أن مكيف السيارة يؤدي إلى الإصابة بالجلطة القلبية.." امتدت يدي إلى مكيف السيارة وفتحت أزرار ثوبي.. لا أدري هل كنت أتحدى المذيعة والعلماء أم كنت أتحدى شبيهي الذي ابتدأ يدخن ويكح؟!!
مررتُ بمقبرة تُبنى وتُشيد أساساتها وخرطوم طويل يصب خرسانة قواعدها.. أوقف شبيهي سيارتي.. ترجلتُ منها ومشى معي.. تفاجأت بقبور طرية رُتبت بإهمال.. ابتسمت ولم يبتسم معي.. أدركت أننا بدأنا نختلف.. تعجبتُ: كيف يُسكن مبنى وهو في طور التأسيس؟!! سميتُ هذا العصر بعصر المقابر.. استعرتُ أداتي حفر من العمال المشتغلين بالبناء.. الأولى لي، والثانية له.. أنشأتُ أحفر وأعمق الحفرة.. التفتُ حولي فلاحظتُ أنه لا يحفر معي ويزيد في الاختلاف عني..
كومتُ حطامًا من أشجار يابسة نبتت قبل القبور.. أوقدتُ نارًا فيها.. تباهت النار بعظمتها وقوتها تحت أشعة الشمس.. مددت لساني لألحس طرفا من أطرافها المتوالدة.. شاركني في مد لسانه أو هكذا تصورت.. أقدمُ على الوهج ويقدم معي. أنكص وينكص معي، وما زال فمي معطرًا برائحة المعجون.. انقضّ علي العمال بأكفهم المنزوعة الجلدة الرقيقة.. وقفوا ممسكين بي حوالي نصف الساعة على قارعة الطريق والشمس توسخ ثيابي بعرقي.. مرتْ دورية من دوريات الشرطة التي تحرس الطريق.. لم يقم شبيهي بالدفاع عني إنما ركب الدورية قبلي.. طلب قائد الدورية بطاقتي ورخصة قيادتي بلهجة مرعبة..
قال قائد الدورية وهو ينظر إلى الطريق: مُسجل ضدك مخالفة مرورية قبل ساعة أردت أن أقول له أنني كنت أختبر صدقي من كذبي بلحس النار بلساني، فإن مسته النار وأصابني الخرس فأنا كاذب وإن لم يصبني فأنا  صادق وجعلت أرجوه أن يمهلني قليلًا لأتأكد وأحظى بالاستيقاظ من النوم وحدي وأقسمتُ له أن النار لا تزال مشتعلة فالحطام كثير وأنني سأنجز المهمة بسرعة ولكنه بدأ يكرر وجهاز اللاسلكي في فمه: حول: السيارة البيضاء رقم.. وموديل.. وُجدت عند المقبرة التي لم يكتمل بناؤها..

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة