السياسة الخارجية العمانية وإدارة الأزمات (3)

د. عيسى الصوافي – سلطنة عمان
دكتوراه في إدارة الأزمات


تحدثنا في مقالين سابقين عن مرحلة تكوين السياسة الخارجية العمانية وعرّجنا على مبادئها وأهم سماتها سوف نعالج في هذه المقالة مرتكزات السياسة الخارجية العُمانية.
قليلة هي الدول الحديثة ذات الإمكانات المتواضعة التي استطاعت أن تفرض نفسها على مسرح الأحداث الدولية، خاصة وأن المجتمع الدولي لا ينصاع بسهولة إلا لمقدرات القوة الشاملة، ولقرارات الدول المثابرة والنشطة والموجودة باستمرار على الأصعدة كافة.
كما أثبتت التجارب المتراكمة أن الدول، غالباً، ما تعدًل في مواقفها أو تغير فيها، بل، وأحياناً تقوم بالتخلي عنها، وذلك استجابة للتطورات والمتغيرات التي يشهدها العالم.
إن استعراض مرتكزات السياسة الخارجية العُمانية وثوابتها، يلزمنا القول إن الإجابة على السؤال الذي يطرحه المنطق، والذي يقول: هل تستطيع دولة ما في هذا العالم متعاملة معه، ومنخرطة في تحركاته، أن تنهج سياسة خارجية ثابتة وملتزمة وذات مرتكزات لا تحيد عنها،؟ وفي حال تمكنها: هل سيكون ذلك في مصلحتها؟
إن الإجابة على هذين السؤالين يقودان إلى وضع إطار نظري لمفهوم السياسة الخارجية لدولة ما، من حيث الثوابت والمرتكزات والمرجعيات التي لا تحيد عنها. وهذا بالضرورة، سيقود إلى الخروج عن نمطية المفهوم المطروح وتقليديته.
لقد أصبحت السياسة الخارجية هذه الآونة ظاهرة ذات مفهوم شمولي ومتطور يحمها نسق دولي ناتج عن تعاظم مرتكزات «الاعتماد المتبادل»(..) بين الدول إضافة إلى التزايد المضطرد في عدد قضايا السياسة الخارجية وتنوعها، وهذا يعني أن الأمن والسياسة لم يعودا هما فقط مدار اهتمام المشتغلين في العمل السياسي الخارجي. ولم يتعد السياسة الخارجية مرتبطة بفواعل الارتباط مع العالم خارج حدود الدولة وبمقدراته فقط، إذ أخذت مؤسسات المجتمع المحلي بكل أطفالها تؤثر بصورة مباشرة في صياغة نمط العلاقات الخارجية للدول، وبالتالي في تكييف سياستها الخارجية لكونها الاستراتيجية بعيدة المدى للدولة التي ترتكز على الإمكانات والمعطيات الداخلية، وعلى قراءة التطورات ودراستها، التي تأتي اعتماداً على مخرجات التخطيط(..) المسبق والإعداد الذي يقوم على أسس علمية وموضوعية ذات مفهوم حديث، وذلك بعد أن أدت مجموعة من الاعتبارات قامت إثر حقائق التوسع والتنوع في مجال السياسة الخارجية، وما رافق ذلك من تطورات وتغيرات مفاجئة.
إذن.. وتبعاً لما استعرضنا آنفاً، يمكن تصنيف مرتكزات السياسة العمانية إلى تلك التي تطبع بالطابع النظري المعنوي والأخرى التي تقبل الانطباع كمرتكزات ذات طابع عملي وأخيراً التي تصنف ضمن خانة الأدوات التطبيقية.

أولا: المرتكزات النظرية والمعنوية:
وتتمثل في مجموع الموجهات التي تنبثق من المنظومة القيمية التي تسير عليها سلطنة عُمان وهي تكون حاضرة توجه بشكل غير مباشر القرار السياسي للتعامل الخارجي، سنحاول حصرها في الموجهات التالية:

(1) الالتزام بالموروث الديني والحضاري:
لقد كان للبعد الديني مساحة واسعة في عملية تشكيل الدولة العربية بشكل عام، حيث نصت معظم الأنظمة الأساسية أو الدساتير أو الوثائق الدستورية المنشأة للدولة العربية على المرتكز الديني «العقائدي» في هويتها، فكان الإسلام دين الدولة، وبالتالي فإنه من المفترض أن يكون هو منبع الجزء الأكبر من تشريعاتها، وأنه يعود إليه الاتباع، ومنه يكون الاستنباط، وبالنص يكون الالتزام، وما استجد فإن مرجعيته القياس، أو الإجماع على المحتوى الاجتهادي.
وسلطنة عُمان لم تخرج عن هذا الإطار، فقد اعتمدت الدين الإسلامي والموروث الحضاري العقائدي كأساس منهجي، حتى وهي في أوج توجهها نحو الأخذ بأسباب الحداثة والتقدم العلمي والتطور الحضاري. لذا جاء الاستشراف المستقبلي للدولة العُمانية ذا طبيعة خاصة نشدت التطور، ولكنها اعتمدت الموروث ولكن دون التحجر في الماضي، أو أن تكون أسيرة له. لكنها، أيضاً، لم تنفلت نحو الحداثة دون وعي، فعملت بكل اقتدار على مزاوجة الماضي بالحاضر في عملية ادماجية أخذت منها الجهد الكبير والوقت الطويل، حتى استطاع نظام الحكم فيها من الخروج بمعادلة واعية ومدركة لكل ما يستجد في العالم دون المساس بالثوابت والمرتكزات.
ولوضع الأمور على مسارها الصحيح والمرجو، فقد بدأ المسؤولون العُمانيون بعد عام 1970م، أي حين تولى السلطان قابوس الحكم، بدراسة الهياكل التنظيمية للدولة، ونظام الحكم، والمجالس المساندة، وعملية صنع القرارات السياسية الداخلية والخارجية. وقد أقيمت مجموعة من المناهج العلمية التي ساعدت على بلورة وظائف السلطة وطرق ممارستها اجتماعياً وسياسياً وأمنياً وثقافياً، ومنها على سبيل المثال لا الحصر منهجية الشورى والبرلمان المفتوح، والتقدم نحو مواقع جديدة من العمل الثقافي والفكري التي كانت محظورة في السابق(..).
لقد استطاع الفكر السياسي العُماني أن يزاوج بين وظائف المدخلات ووظائف المخرجات، رغم النظرية السياسية التي تقول إن هذا أمر صعب(..)، وذلك عندما جمع بينهما في إيقاع سياسي منظم، وذلك بعودته إلى الثابت المقدس، فوفر لنفسه قدرة الإيمان وقدرة اتباع الهدي الإسلامي، وذهب في التوجه نحو بناء القوة المادية التي مكنته من مناهضة القوى غير المؤمنة. وفتحت له مجال التعامل مع مقدرات الحداثة.
لقد عد الفكر السياسي العُماني الإسلام ثابتاً مقدساً لا يجوز الخروج عليه بأي حال من الأحوال. إلا أنه أخذ بضرورة مقارعة الذين يتاجرون بالدين من أجل مصالحهم الذاتية، ومحاربة المنافقين الذين يمسخون صورة الإسلام، ويشوهون تعاليمه. وهكذا، فقد آمن الفكر السياسي العُماني بأن القوة المتأنية من المكونات المادية والمعنوية هي الوسيلة الأهم لتحقيق أمن المجتمع وبالدفاع عن عقيدته.

(2) الانتماء العربي:
تتمسك عُمان، بكل جدية واقتدار، بثابت الانتماء إلى الأمة العربية، فقد نصت المادة الأولى من النظام الأساسي للدولة، والصادر بمرسوم سلطاني في 6/11/1996م، على أن «سلطنة عُمان دولة عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة تامة عاصمتها مسقط»، لذا، فإن الممارسة السياسية الخارجية العُمانية في كل توجهاتها تلتزم بالعمل ابتداء داخل الدائرة العربية، حيث امتزج تاريخها بالتاريخ العربي وارتكزت مصالحها على هذا الأساس. ففي 26 أيلول 1971م انضمت عُمان إلى جامعة الدول العربية، ومنذ ذلك الحين وهي تحرص على المشاركة الفاعلة والمستمرة في كل الأنشطة التي تتم من خلال الجامعة. كما أكدت في كل اتصالاتها وتواصلها على مبدأ قيام علاقات عربية ــ عربية قوية. ومن هذا المنطلق فقد أقامت السلطنة سلسلة علاقات مع الدول العربية على المستوى العام الخليجي والثنائي تميزت بالقوة والمتانة، إيماناً منها بزهمية التضامن العربي وأهمية العمل العربي المشترك في سبيل خدمة القضايا العربية والمصيرية. وقد تميزت كل هذه العلاقات بالمرونة وبالتفهم الكبير والواعي للأحداث على أسس واقعية، ونظرة متوازنة بعيدة عن الانفعال وعدم التروي.
لقد أدت هذه الممارسة إلى تمكين عُمان من المساهمة القوية والمنتجة والإيجابية في حل كثير من النزاعات العربية، سواء كانت فيها السلطنة طرفاً، أو لم تكن. كما خدمت بصورة فاعلة وحدة الصف العربي، ووثقت العلاقات العربية البينية في إطار احترام السيادة الوطنية(..) والالتزام بالقضايا القومية وتقديمها في كثير من الأحيان على القضايا المحلية. ولقد أكدت السلطنة في كل مناسبة على انتمائها العروبي، وأنها جزء من الأمة العربية التي تربط بين وحداتها السياسية ووحدة الهدف، ووحدة المصير. لذا فقد رأت عُمان أن واجبها القومي يحتم عليها الالتزام بالوقوف مع كل قضايا العرب والدفاع عن مصالحهم(..).

(3) الخصوصية التاريخية:
تقول بعض النظريات السياسية أن تراكم نتاج التاريخ لدولة ما غالباً ما يؤثر بصورة مباشرة في تشكيل نمط سياستها الخارجية، ولك تأثرا بالأفكار والقيم والمعتقدات الموروثة التي تظهر في فترة تاريخية ما، والتي تمد الدول بدوافع تشكل بعض خطوطها الرئيسية التي تعتمدها في صياغة سياستها الخارجية. وفي منطقة كالمنطقة العربية تعد قراءة التاريخ والموروث التاريخي شرطاً أساسياً في فهم سلوك الدول.
تتميز الخصوصية التاريخية العُمانية بأنها قد رصدت تحضراً رجع إلى اثني عشرة قرناً قبل الميلاد. كما جعل موقعها الجغرافي جزءاً من حضارة واسعة، امتدت حتى فارس وأفغانستان، وتماست مع حضارة بلاد ما بين النهرين والهند. فشكلت من ذلك تجربة تاريخية متميزة، ففي عهد السومريين أطلق عليها اسم «مجان»، أي أرض النحاس أو «هيكل السفينة»، وهذا يعني أن عُمان اشتهرت بصناعة السفن. وقد عاصرت مملكة «مجان» مملكة «دلمون» البحرين اليوم، وحضارة «مالوخا» في الهند.
أما الفرس فقد أسموها «مزون» ويعني السحاب والماء الغزير المتدفق، وهذه دلالة على كثرة مياهها، الظاهرة التي تصاحبها عادة مظاهر حضارة متقدمة. كما لق عليها الكلدانيون اسم «ابليتا»(..).
لقد أثبتت البحوث الأثرية، أن عُمان قد ارتبطت ببلاد مصر وسوريا، وذلك خلال الألف الثالثة قبل الميلاد، وذلك لكونها قوة اقتصادية هامة، وامتهن كثير من أهلها التجارة. كما ذكرت كتب السيرة أن حاكمي عُمان عبد وجيفر ابني الملك الجلندي المعولي اللذين كانا يحكمان عُمان قد استجابة لرسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم واعتنقا الإسلام، وكان عمرو بن العاص عاملاً على عُمان حتى وفاة الرسول(..).
استمرت عُمان بتعاملها القوي مع الخلافة الراشدة، واشترك العُمانيون في العديد من الفتوحات الإسلامية الكبرى. وفي خطاب الخليفة أبي بكر لوفد عُمان الذي كان برئاسة عبد بن الجلندي، قال: يا معاشر أهل عُمان، إنكم أسلمتم طوعاً، لم يطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ساحتكم بخف ولا حافر، ولا عصيتموه كما عصاه غيركم من العرب.
لم يكن للأمويين شيء من الشأن أو السلطة في عُمان، حتى أنهم لم يرسلوا والياً عليها. بل إن بعض المؤرخين العُمانيين قالوا: إن بلادهم قد عارضت الحكم الأموري وإنها ناهضت بعض السياسات التي انتهجها الحجاج بن يوسف الثقفي بشكل خاص.
أما العباسيون (749م) فقد اقتربوا من عُمان، حيث أرسل أبو العباس (السفاح) أخاه أبا جعفر المنصور والياً عليها. إلا أن العلاقة مع الدولة العباسية لم تكن ودية، حيث شهدت هذه الفترة سلسلة من الاضطرابات، كان من أهمها معركة «جلفار» التي قتل فيها عدد كبير من المحاربين العُمانيين نتيجة حيلة قتالية لجأ إليها العباسيون.
استمر الوضع في عُمان بالتدهور حتى حكم بني نبهان، الذين استمر حكمهم خمسة قرون لم تخل من النزاعات على السلطة، خاصة بين بعض القبائل الطامحة في الحكم، إلى أن جاءت القوات البرتغالية واحتلت جزءاً كبيراً من الساحل العُماني.
وفي عام 1624م قامت دولة اليعاربة في عُمان، واستطاع ناصر بن مرشد توحيد البلاد، واستيعاب جميع القبائل العمانية(..)، وتمكن من طرد البرتغاليين.
بعدها مرت عُمان بفترة جديدة من الاضطراب، توالى الحكام عليها، وجرى فيها تداول للسلطة التي ارتكزت على الإمامة والبيعة إلى حوالي عام 1729م، حيث استولى الفرس عليها، الأمر الذي شق على العُمانيين، فتوحدوا ثانية وأجمعوا أمرهم على أحمد بن سعيد البوسعيدي الأزدي الذي بويع عام 1744م، واستمر حكمه لأكثر من عشرين عاماً.
بدأت الدولة العُمانية بالظهور، وأخذت مؤسساتها تتبلور، وشكل فيها جيش وأعيد النشاط إلى الحركة التجارية الدولية(..).
استمر الحكم في عُمان بين مد وجزر حتى عادت التدخلات الخارجية تؤثر على الوضع فيها، حيث حاول الوهابيون الاستيلاء على واحة البريمي، كما حاول الفرس انتزاع ميناء بندر عباس. ظلت هذه الاضطرابات تتوالى حتى عام 1856م حيث بدأت بريطانيا في التدخل بين العُمانيين وخلق الشقاق بينهم عن طريق الإيقاع بين ثويني وماحد ابني السلطان سعيد بن سلطان. وبالفعل انقسمت الدولة، ولكنها عادت إلى التوحد.
استمر الوضع المضطرب يسيطر على عُمان حتى عام 1932م، حيث تنازل السيد تيمور بن السيد فيصل بن تركي عن الحكم لإبنه السيد سعيد، الذي بدأ بمعالجة الاختلالات في عُمان ومنها الاقتصاد والعلاقات الدولية. ولكن ذلك لم يكن على مستوى عال من الاقتدار، خاصة بعد أن اكتشف النفط وبدأ تصديره عام 1968م. فبدأت الدولة بالتراجع إلى أن تولى السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الأمور في 23 يوليو عام 1970م، حيث بدأ بوضع أسس الدولة العصرية من كل النواحي.
وهكذا، فقد كان للتاريخ أثر بيًن في بناء نمطية السياسة الخارجية العُمانية، رأينا ردة الفعل عليها في عهد السلطان قابوس الذي أفاد من كل الاختلالات التي شهدتها بلاده، فتولدت لديه مبادئ، وأفكار، ومرتكزات، سارت عليها الدولة الحديثة حتى الآن.

(4) الكاريزما السياسية
حكم فكرة الإدارة السياسية لسلطنة عُمان ثلاثة أمور هامة، أولها: الكاريزما الشخصية للسلطان قابوس بن سعيد، وثانيهما: ارتفاع وتيرة التجاوب الشعبي مع الممارسات السلطانية التي دفعت بالبلاد نحو التحديث والتطوير والدخول في سياق المجتمع الدولي المتحضر. وحتى نفهم ذلك لابد من دراسة سريعة للكاريزما الشخصية للسلطان قابوس، وثالثها طبيعة «الشخص» العُماني التي اتسمت بالعقلانية والهدوء والتبصر، وجمعت بين الطبع المحافظ وذلك الطبع الباحث عن الحداثة، إلى جانب وضوح سمات السعي نحو التوازن والحوار(..).
لقد انتبه الباحثون، منذ فترة، إلى أثر عامل الشخصية في صناعة الدولة وخاصة في إدارة السياستين الداخلية (حيث يكون الناتج طبيعة النظام السياسي) والخارجية (حيث يكون الناتج السياسة الخارجية للدولة وبالتالي علاقاتها الدولية)(..). لذا، فإن دراسة شخصية القائد كركن من أركان الدولة أصبح أمراً مسلماً به، نظراً لما أتت عليه الدراسات من رصد واضح للتأثير الكاريزمي لشخصية رئيس الدولة (..). ولكن هذا لم يمنع أن يقع هذا الموضوع في دائرة الجدل والأفكار المتناقضة والمتضادة، أو المختلفة على الحد الأدنى. إذ أن هناك من المفكرين السياسيين من يقول إن تأثير عالم الشخصية في السياسة الخارجية للدولة هو أمر آني ينتهي بموت هذا الزعيم أو بتركه السلطة. وإن القائد السياسي إنما يعمل في نطاق بيئة داخلية وخارجية تفرضان عليه وعلى العمل السياسي وجودهما، وعلى السياسة الخارجية بشكل خاص، وهذا ما ذهب اليه «الواقعيون»، بينما قال آخرون إن القادة هم أطراف هامون في النظام السياسي، وبالتالي في سلوكه، وعندها تغدو شخصية القائد عاملاً أساسياً في صنع القرارات الخارجية. ولذلك، وحتى نستكمل دراسة السياسة العامة للدولة، فلابد من دراسة «العامل القيادي»، وهذا ما أخذت به معظم النظريات السياسية السلوكية المعاصرة منطلقة من ثلاثة محاور:
أ) التركيب النفسي والفكري للشخصية.
ب) تنشئته الإجتماعية والسياسية.
ج) البيئة العامة الداخلية والخارجية للدولة(..).
لقد ركزت الدراسات السياسية وأدبياتها علي أن أثر عامل الشخصية غالباً ما يظهر بقوة في مجالين:
أولاً: إما في الأنظمة الديكتاتورية، حيث يغدو تداول السلطة صعباً ومحكوماً بظروف استثنائية، وعندها تندمج الشخصية القيادية في السلطة، بحيث يصبح من المستحيل الفصل بينهما.
ثانياً: في الدول التي تمر عليها شخصيات قيادية ذات كاريزما متميزة ولكنها غير متغولة، بل تحاول، دائماً، أن تكون تحت متطلب الشرعية وحدودها.
واعتماداً على ما سبق، فإن النظام السياسي العُماني يحكم في ظاهره على أسس التفرد «المشرعن» بالنظام الأساسي للدولة، ولكن في داخله وفي ممارسته هي قوة شخصية القائد وقدرته الفائقة على إدارة أجهزة الدولة بشكل شامل، لذا، فإن الدولة العُمانية، وسياستها الخارجية في ذات السياق، تدار بالشورى التي جاءت مكوناتها من مخزون الثابت المقدس والملتزم على مستوى الفكر، ومن المؤهلات المادية والوظيفية لمفهوم الدولة الحديثة. ناهيك عن ذلك التواصل المستمر بين القائد والشعب على صورة برلمان مفتوح، يتمثل في الزيارات الشاملة التي يقوم بها السلطان قابوس مرتين في العام، يلتقي خلالهما بجميع أطياف المجتمع، ويستعرض معهم قرارات الدولة الداخلية وبالتالي يبني عليها قرارات الدولة الخارجية.
لقد أثر التكوين النفسي والفكري للسلطان على وضع السياسة الخارجية للدولة، ومن ذلك مولده في المنطقة الجبلية من عُمان «ظفار»، وما يعنيه ذلك من طبع نفسية الشخص بالشجاعة والقدرة على التحمل، ورفض الوصاية من الخارج، والنزوع إلى القيادة(..).
وينحدر السلطان قابوس، وهو السلطان الثامن، مباشرة من نسل الإمام أحمد بن سعيد المؤسس الأول لأسرة البوسعيد، وكان أكثر الأئمة احتراماً وإجلالاً في عُمان. وعرف عنه أنه رجل مقاتل وإداري محنك، وقد عمل بكل اقتدار حتى وحد البلاد العُمانية، وقضى على الحروب الأهلية. وقد كان لهذا التجذير التاريخي أثر كبير في بناء شخصية السلطان قابوس. إضافة إلى تلقيه العلم على أيدي بعض العُمانيين المتنورين.
استكمل السلطان دراسته في بريطانيا التي اشتهرت مدارسها بالصرامة والجدية، ثم التحق بكلية ساند هيرست العسكرية التي كانت مثالاً للانضباطية والعيش العسكري الصعب ومعاملة الطلاب على قدم واحد من المساواة مع نزع كل خصوصية عن أي طالب يلتحق بها.
وهكذا اكتملت شخصية «الطالب قابوس»، من حيث الإعداد النفسي والجسمي والعلمي. وازدادت قدرته على التحمل والتعامل مع الحياة الشاقة الصعبة.
انعكس كل ذلك على تكوين الكاريزما الشخصية للسلطان، فأخذ يسوس الدولة انطلاقاً مما تعلمه من حضارة، وعلم، وانضباط، وتحمل للمسؤولية، وواقعية(..).
ومن هنا، ولما كان يتحلى به السلطان قابوس من اتساع معرفة وتواصل مع أحداث العالم وتطورته، فقد جعل من السياسة الخارجية العُمانية سياسة متعلقة حيادية وقادرة على الاستشراف.

تعليق عبر الفيس بوك