حفيد غير شرعي

محمد علي العوض

باتت قصيدة النثر تحتل حيّزًا كبيرًا في خارطة الشعر العربي وواقعه المعاصر؛ رغمًا عن أنف كثير ممن يرى أنّ المصطلح نفسه يحمل في تركيبيته تناقضًا واضحًا؛ إذ يجمع بين جنسين أدبيين لكل منهما قواعده وتقنياته؛ فكيف يكون النص قصيدةً ونثرا في آن واحد؟ حتى وإن التقيا في عناصر فنية حتمتها جماليات اللغة وسياق التراكيب كما في نزعات السرد عند امرئ القيس مثلا في قصيدة دارة جلجل؛ فإنّ الفارق الجوهري بينهما يظل هو فارق "الوزن"، ويستندون في ذلك على تعريف قدامة بن جعفر بأنّ الشعر كلام موزون مقفى، ولابد أن يُنظم على عقد أوزان الشعر وبحوره، وأنّ النثر يخلو مما قاله ابن قدامة؛ مع العلم أنّ تعريف الأخير مختلف عليه ودار حوله لغط كثير من قبل قدامى النقاد والمحدثين؛ أمثال عبد القاهر الجرجاني الذي أورد في كتابه دلائل الإعجاز قصة حسان بن ثابت مع ابنه، حين سأل حسّان ولده: ما الذي يبكيك؟ فأجاب الابن: (لسعني طائر كأنّه ملتف في بردى حبرة) فقال حسان: لقد قلت الشعر وربّ الكعبة، كما يورد الجرجاني أيضًا واقعة الأعرابي الذي سئل: لمَ تحب حبيبتك؟ فأجابه الأعرابي: (لأنني أرى القمر على جدار بيتها أحلى منه على جدران الناس).

ونستخلص من الواقعتين أعلاه أنّ الشعر يمكن أن يكون بلا أوزان، وإنّما الشاعرية أو الشعرية الحقة لا تتقيد بقيود الوزن، بل هي عبارة عن خيال خصب ورؤى عميقة تحمل في طيّاتها جماليات المفردة والتركيب.

تجاذبت قصيدة النثر التي نشأت على يد "الفوضويين" أمثال رامبو وبودلير ظروف مختلفة؛ لكنّها اليوم نحت بعيدًا عن الفوضوية باعتبارها ظاهرة تمرّد على الأجناس الشعريّة السائدة في منتصف القرن التاسع عشر ونحت نحو الاستقرار عندما اتخذت من السوريالية والواقعية رداءً لها.

في كتابه "الخطاب النقدي" يشير جاسم حسين الخالدي إلى المعارضة التي واجهها الخارجون على هندسة القصيدة العامودية ويقول "لقد تصاعدت الأصوات الرافضة لهذه المحاولة الشعرية الجديدة ورميت بألوان التهم ووصفت بشتى الأوصاف الرخيصة، والكثير منهم لم يرضخ إلى ذلك الصخب العالي ومضى في طريق التجديد إلى حدود بعيدة".. وأنّ هذه الجهود سلكت طريقا مغايرا للدفاع عن قصيدة النثر من خلال كشف شعرية النصوص وجماليتها والوقوف على مخبوءاتها لتأكيد مشروعيتها بوصفها نوعا أدبيا جديدا يندرج في حقول الفاعلية الشعرية الحديثة.

وأيًا كان ما أضافه المُحدثون من قواعد لقصيدة النثر فقد صارت بابًا يلج من خلاله كل من كتب ونثر بصرف النظر عمّا يكتبه سواء كان غثا استقبحه الناس أو سمينا استحسنه الناس. ولن تسعف القصيدة النثرية ما أصلّت له سوزان برنار في كتابها المرجع "قصيدة النثر من بودلير وحتى الآن" من خصائص وقواعد يجب أن ترتكز عليها قصيدة النثر؛ كالإيجاز والتكثيف والتوهج والدلالة المتغيرة بحسب السياق والتركيب، والوحدة العضوية، وإيقاعها الخاص وموسيقاها الداخلية، التي تعتمد على الألفاظ وتتابعها، والصور وتكاملها، والحالة العامة للقصيدة.

الحقيقة المجردة أمامنا أنه وبجانب عدم اعتراف أصحاب المدرسة التقليدية بقصيدة النثر التي لا تملك خاصيّة الإيقاع الجوهريّة كما الشعر العربي الأصيل فإنّها لا تملك ما يعصمها من تسلّق المتشاعرين عليها، فهي لا تملك أسوارًا علمية حصينة مثل القصيدة العمودية من قافية ووزن؛ الأمر الذي يجعلها عرضة للاقتحام لكل مَنْ هبّ ودبّ ومن يدعون نظم الشعر، والذين أنتجوا قصائد مترهلة محشوة بضعف المعاني والتصاوير وضحالة الرؤى التعبيرية؛ ولن تعدو سوى خواطر نثرية تعتمد على وصف حالة نفسية ما بلغة تفتقر لشاعرية اللفظ عند تطبيق معايير سوزان برنار عليها.

وحتى لا نكون متحاملين أكثر من اللازم على قصيدة النثر يحتم علينا مبدأ الإنصاف الوقوف مليّا فيما قاله الناقد عبد الرحمن البيدر والذي رد على القادحين في قصيدة النثر بأنّ هناك قصائد شهيرة مُقفّاة تخلو من الشاعريّة الحقيقية، في مقابل قصائد نثر كثيرة تتوفر على أروع الصور الشعريّة وأرقى أهازيج الموسيقى الداخلية، وهذا ما يوفر لها استفزازًا ومحاكاة وجدان وتحفيزا للذائقة الشعرية كما هو الحال عند أدونيس ومحمود درويش وجبران خليل جبران الذي صرّح: "أشعر أنّ الوزن والقافية يقيّداني ولذلك سأكتب قصيدة النثر"؛ وإن كان عبد الله الطيب في كتابه "المرشد إلى فهم أشعار العرب" قد ردّ على شكوى جبران من قيود القافية بأنّ هذه حجة ضعيفة لأنّ اللغة العربية واسعة جدًا وبنيتها تساعد على كثرة القوافي إذ فيها أكثر من 60 ألف أصل ثلاثي ورباعي، وكل أصل من هذه الأصول له نظائر عدة تنتهي بمثل الحرف الذي ينتهي إليه الأصل كمثال الأفعال "ضربَ، كتبَ، طربَ، سلبَ"  أو "هدمَ، لثمَ، علمَ"...إلخ وحتى هذه الأصول فيها نحو عشرين ألف أصل ذي فروع ومشتقات.

أما عدنان الظاهر فيرى أنّ قصيدة النثر غامضة المرامي ومعتمة بشكل مطلق، وعصيّة على الفهم والتفسير حتى على شاعرها نفسه، بجانب أنّها إسفنجية البناء والتركيب وقابلة للضغط والاختزال وتبديل مواضع الكلمات والجمل، إضافة لتمردها على الفكر ومنطق قانونية اللغة والسياق الزمكاني لتراتب الفعل والفاعل والمفعول به المعروف منذ نشأة العربية.

ويضيف أنّه إذا كانت قصيدة الشعر الحر – السابقة لقصيدة النثر- قد تمرّدت على بعض قيود القصيدة القديمة كالوزن والقافية وحروف الروي، وطول البيت وتسكين أواخر مفرداته والإكثار من استخدام النقاط وأدوات التعجب والاستفهام وإدخال المصطلحات الأجنبية والرموز والأساطير؛ فطبيعي جدا أن تجد قصيدة النثر (حفيد الفراهيدي غير الشرعي) الظرف مهيأ أمامها لتمارس ما مارسته قصيدة الشعر الحر؛ بل وتزيد عليها أمورًا في غاية الجدة والحداثة.

mohamed102008@windowslive.com