الرقابة المستقلة.. وضرورياتها الوطنية الملحة

 

د. عبدالله باحجاج

تظهر في عنوان المقال، إشكالية جدلية آنية، وهى استمرارٌ لمقالنا السابق المعنوَن باسم "حماية المستهلك الأنسب.. وهذه أسبابنا المقنعة" وهى -أي الإشكالية- نختصرها في التساؤل التالي: أيُّهما أفضل للرقابة على تطبيق قانون المنافسة ومكافحة الاحتكار، المركز بإشراف وزير، أم هيئة حماية المستهلك المستقلة؟ والاجابة الحاسمة لهذا التساؤل تكمُن في العبرة من القانون؛ بمعنى: هل هو هدف في حد ذاته، أم وسيلة لتحقيق غايات يحرص المشرِّع العُماني على تحقيقها داخل المجتمع؟

طبعًا، ستكون العِبرة هنا في الغايات، وليس في وجود المادي المجرد للقانون، وفي هذه الحالة لن تكون العبرة في القانون نفسه، ولا في مضامينه مهما كانت النصوص محكمة ورادعة، وإنما في تطبيقه، وتوافر آليات وأطر محايدة تؤدي للمساءلة والمحاسبة، وضمانة منافسة سليمة خالية من الاحتكار، وتقطع كل الطرق التي تؤدي لرفع الأسعار؛ فالبناء المعاصِر لدولة القانون، بمؤسساتها المتعددة في بلادنا، تحتم وجوبا أن لا تظل الحكومة تمارس الأدوار نفسها التي أملتها عليها ظروف مرحلة السبعينيات، فقد كانت هي المنشِأة للقانون، وهى السَّاهرة على تطبيقه، وقبل استقلال القضاء كانت هى التي تعمل على حلِّ الخلافات الناجمة عنه، أي هي الحَكْم والخَصم، فهل ينبغي أن تظل كذلك في مرحلة الضرائب؟

كلُّ الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جعلتْ من الحكومة تجمع كل الصلاحيات، قد بدأتْ تتحول منذ منتصف العام 2014، وسيكون العام 2019، فارقا في تحوُّلاتها، فلن تمكنها ظروف التحولات الجديدة من الاستمرار بالتمسك بكل الصلاحيات، وإنْ تمسكت بها، فستدخل في تحديات كبرى؛ وهذه رُؤية استشرافية قد عبَّرنا عنها سابقا، فما دام المجتمع قد أصبح يُسهم في موازنة الدولة من خلال منظومة ضرائب متعددة، ورسوم مختلفة ومتنوعة، فستكون الشراكة في صناعة القرار مسألة حتمية، وسيكون أفضل وسيلة مقبولة لتطبيق القانون، والتأكد من سلامة نتائجه، وجود مؤسسات دولة مستقلة، وسيكون خيار تعزيز مسارنا القضائي نحو تعزيز مهنيته واحترافه مطلبا سياسيا واقتصاديا قبل أن يكون اجتماعيا، تفرضه عملية تدفق الاستثمارات الأجنبية التي تحث عليها الرؤية الوطنية 2040. وكلما عززنا المسار الوطني في تحولاته الجديدة بالاستقلالية والمهنية، لتحقيق الأجندة الوطنية، كان ذلك ضمانا لديمومة المسير الآمن نحو تحقيق أجندة المصير الجامع لكل المصالح داخل البلاد، بدلا من جنوح بعضها.

وتتوافر لدينا الآن تجربة نموذجية ومثالية في زمانها ومكانها، لمسار الاستقلالية، ليس داخل بلادنا فقط وإنما العالم أجمع، وهى تجربة هيئة حماية المستهلك التي أنشئت بمرسوم سلطاني سام عام 2011، فهل نبني على نجاحها أم نسحب النجاح منها؟!

التساؤل الأخير يُمثل قمة العقلانية، وهو يستدعي الظروف التي كانت سائدة قبل الهيئة، وتلك التي أحدثتها منذ ولادتها وحتى الآن، وقد أصبحت معلومة للكل، والمعلوم للكل كذلك أن هذا النجاح قد أصبح يمسُّ مصالح اقتصادية لتجار يتربحون على الغش، وعلى صحة الإنسان، فهل نتوقع استمرارَ هذه الاستقلالية أم محاربتها؟

علينا أن نتأمَّل في عُمق التساؤل سالف الذكر حتى نفهم خلفية سحب الصلاحيات من هيئة حماية المستهلك، والمسألة التي نُؤكد عليها هنا أنَّ التراجعَ عن مسار الاستقلالية أو تقليص حجمه، مهما كانت صوره أو أشكاله، لن يخدم أمنية التحولات المقبلة بعد تطبيق ضريبة القيمة المضافة عام 2019، والتي سترفع المعيشة الاجتماعية، وقد تستغل إذا لم تجد وسيلة رادعة، ولن نجد هذه الوسيلة من خارج الاستقلالية، ولنا في رفع يد هيئة حماية المستهلك عن تذاكر الطيران على خطنا الداخلي أنموذجا، فهذه الأسعار قد أصبحت ترتفع فجأة بصورة غير مبررة، وحجية غل يد الهيئة في أسعار التذاكر يرجع لجود الهيئة العامة للطيران المدني، فماذا فعلت أو مع زيادة الأسعار الجديدة رغم استياء الرأي العام؟ بل إنها لم تدل حتى الآن بأي بيان توضح فيه الموقف للرأي العام، وكأنها لا تعنيها من قريب ولا من بعيد، والموقف نفسه من الطيران الذي لم يستجب لهذا الرأي حتى الآن، ولم يبرر الزيادة، ولم يوضح كيف اتخذها الآن على وجه الخصوص، فكيف نتجاهل قوة الرأي العام؟ بل التساؤل الأهم: مَنْ وراء هذا الارتفاع الكبير؟

هنا.. منطقة عقل وطنية خالصة ومخلصة، نعلي من شأنها لدواعي الإقناع، ولفهم الأبعاد والخلفيات، فسحب صلاحية الهيئة الرقابية من على تذاكر الطيران الداخلية، ماذا كانت نتيجته؟ ارتفاع الأسعار، وفي حالات تصل إلى الجنون (100-120) ريالا للدرجة السياحية ذهابا وإيابا، ومن ثم علينا التوقع النتيجة نفسها في قضية المنافسة ومنع الاحتكار؛ لأنها ستكون خارج صلاحية الهيئة المستقلة، الرقيب والحسيب عليها سلطة حكومية لها مصالح نفعية مباشرة أو غير مباشرة داخل سوقنا العماني.

ومن هنا، نرى أن أية عملية عصف عقلي، ستخرج بالحقيقة التالية، أن مرحلتنا المقبلة، تحتم تبنِّي مسار الهيئات والمؤسسات الرقابية المستقلة، وهذا يفتح الآفاق لاستمرارية أو تعزيز أو ضرورة الانتقال للاستقلالية، لمؤسسات مُحدَّدة بذاتها، وهى القضاء ومجلس الشورى والرقابة المالية وهيئة حماية المستهلك والادعاء العام والمجالس البلدية وهيئة الطيران المدني، لا ننفي استقلالية البعض منها، لكن الضرورة تحتم تعزيزها، وضمانتها؛ فذلك يتناغم مع جوهر التحولات في دور الدولة، والذي أشرنا إليه في العديد من المقالات، ودون هذه الاستقلالية لتلك المؤسسات والهيئات سيعاني المجتمع كثيرا، في وقت يجب أن نحافظ فيه على قوته لمواجهة الكثير من التحديات الداخلية والإقليمية التي أصبحت تحطم روابط الأخوة والقربى والجوار، تحت جنون الطموحات والاستقواء بالبعد الدولي.

dr.bahajjaj@yahoo.com