المطبخ بلا سكين

 

علي بن كفيتان

لقد هذب الإنسان البدائي أداة حادة يقطع بها الأشياء صقلها من صخر الصوان وظلّ يستخدمها في العصر الحجري، واليوم نجد معظم تلك المنحوتات على أرفف المتاحف شاهداَ على تقدير ذلك الإنسان القديم بألا يأكل إلا الأشياء التي تدخل في فمه الصغير، بينما اليوم يدخل الشيف (كبير الطهاة) ومعاونوه إلى المطبخ العصري بلا سكين ليطحنوا كل الأشياء معاً ثم ترسل الوجبة المهروسة إلى مائدة كل بيت ولا خيار إلا أن تأكل منها وإذا لم تعجبك أقذفها في أقرب برميل قمامة.

كانت السكين تعلق على أطراف الرجال قبل اختراع البندقية ولا تجد ذكرا بالغا إلا ولديه تلك الأداة الحادة فمنهم من يعلقها في خاصرته ومنهم يزينها بأجمل النقوش ويربطها في وسطه وكثير منهم يفضلون أن تظل مدسوسة بين طيات وزاره، ويثبتها بخيط رفيع إلى الحبل الذي ظل ملازما لأي رجل منذ أبصر النور، في غالب الأحيان عملية استخراج السكين صعبة والأصعب أن تقطع به الأشياء وهي مربوطة بهذه الأحكام لكنّها في النهاية مهارات من المجتمع القديم مثلها مثل مفتاح السيارة والسحارة (مندوس) المعلقون في ذات الحبل الذي لا ينفك لذلك ظلت السكين محتفظة بهيبتها حتى سقط هؤلاء الرجال وانقطع الحبل الذي يلفهم منذ الولادة.

تناقل الرواة في الموروث الشعبي أن السكين كانت محرمة على الأغنام حيث يقوم الراعي بدفنها في الأرض كي لا تراها، وهنا رمزية واضحة على خطورة السكين على الأغنام، لكن ما هو غامض لماذا تم دفنها في التراب بالذات، ويذكر الراوي أنّ القطيع ظل ينعم بالسلام حتى أقدمت شاه متهورة على حفر الأرض بقرنيها وأخرجت السكين ومن يومها بطلت حرمة السكين على الغنم وصارت من أكبر ضحاياه، لذلك خلد المثل الشعبي الذي يقول: (لا تكون كمثل الغنمة التي بحثت لنفسها عن السكين).

سالت كثيراً عن سر المدية المطوية ولم أجد جواباً إلا أنّ الرجل إذا ناداه أحد مستغيثاً ليذبح حيوانا طاح أو مرض بحيث يكون حلال أكله يجب أن يملك تلك الأداة العجيبة وبها تكتمل أقانيم الرجولة الثلاث وهي (الذبح الحلال، وحلب الماشية، واستخدام السلاح) بينما قال رسولنا الكريم صلى الله وعليه وسلم ((علموا أولادكم السباحة، والرماية، وركوب الخيل)).

منذ أكثر من 1400 سنة أخبرنا الله جل وعلا أنه أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وخصصت سورة باسمه في محكم التنزيل، ومع ذلك لا زالت أكثر استخداماته عندنا كمدية بمختلف أشكالها وأنواعها، أنها متلازمة عجيبة واليوم نترك السكين ونخلط الأشياء معاً بسكاكين صناعية تحركها الطاقة الشمسية الاتية من بلاد بلا شمس، يقال إنّ الطاقة الشمسية تتركز معظمها على ذلك الخيط الرفيع (الحقو) الذي ظل ملازماً لخاصرة ذلك العجوز ومع ذلك فهو يؤمن بمديته التي تطوى أكثر من أي قوة أخرى على هذا الكون وانتقل ذلك الإيمان العميق لأجيال أخرى.

وبعد أن فقدت السكين أهميتها ماذا عسانا نفعل، لقد شكل غيابه فراغاً كبيراً وأصبح من يحمله اليوم رمزاً للتخلف والرجعية الحضارية، ومع ذلك عندما نحتاجه لقلع شوكة أو لقص ما اختلط من اللحم بالعظم نبحث عن صاحب السكين ونمجده كونه لا زال يحمل تلك الأداة ومن المؤكد بأنّ من استخدمها يجب أن يمسحها جيداً قبل إعادتها لصاحبها الذي يدسها في جفرها الجلدي المعلق على خاصرته بكل رشاقة.

في ظل غلاء الأسلحة التقليدية (الكند وأخواتها) وتطلب الأمر الحصول على تصريح لحملها والغلاء الفاحش لذخائرها فقد وجد الكثير البديل في السكين فيقولون عاد عهد السكين فلا تدري ماذا يعترضك في الطريق أو وأنت في رحلة خلوية مع أسرتك فلا بد من سلاح رادع على الأقل عندما يراه العدو يتراجع، ولا أظن أن تلك القطعة الحديدية الصغيرة ستجعله يغير رأيه إلا إذا كان من يملكها تدرب على حركات إضافيّة تجعله مخيفاً، وهنا سأقترح على وزارت التربية والتعليم إدخال مادة لتدريب الكونغ فو في المدارس.

alikafetan@gmail.com