تجلّياتُ حَرفٍ صَادقٍ


محمد علي العوض


بعض الكتب ليست جديرة بالاقتناء من أجل التقاط المعلومة فحسب، بل بعضها كفيل بتحقيق معنى "المعرفة الماتعة" وجاذبية القراءة والرحيل إلى عوالم أكثر رحابةً.. والغوص بعيدًا.. تجود حروفها بالحياة على شظفها.. بالحنين على حين غرة من السأم.. تغافل بريشة مواجدها وجه القُبح الحياتي؛ فتحط الأرواح رحالها في حدائق وجدانٍ غنّاء.

هكذا كان كتاب "رؤى في سطور" للكاتبة العمانية سلمى اللواتية، الذي حوى مجموعة مقالات دأبت الكاتبة على نشرها في عدد من الصحف والدوريات العربية. ومخرت عبره عُباب كثير من القضايا المجتمعيّة والفكرية المتلاطمة والمتداخلة في قالب إبداعي رصين؛ تميز بجزالة اللغة، وحلاوة الأسلوب وبراعته؛ بصورة تشابه روحها المنعتقة من براثن الاختزال والتقوقع إلى رحابات ممتدة تؤسس لعالم أكثر خشوعًا في محراب الكتابة، وأمضى عزيمة في الالتزام بقضايا الأمّة، وأكثر قربًا للنفس البشرية التي تدافع الكاتبة عن تجاذباتها في كثير من المنابر والأنشطة كاهتماماتها بحقوق المُعاقين وحقوق الأطفال في التعليم والتنمية البشريّة.
يقدم الكتاب - كما يقول عن نفسه- صورة بصريّة تخاطب العقل من خلال تجارب المؤلفة، وقراءاتها الاستشرافية، التي تشرّبت بها من خلال معايشتها، واستمطار مُزن السؤال الدائم من أجل ملء فجوات اليباس في مشوار البحث عن الذات الخيرية.
ولعلّ مقالتّها في ذات الكتاب والموسومة بـ "تجليات حرف صادق" تعكس جانبًا من تلك الروح المُرهفة، والتي آمنت بأنّ اللغة حياة تكمن في داخلها مثنويات الخير والشر.. التفاؤل/ التشاؤم.. الجمال/ القبح؛ حين تتخطى عوالم الظاهر لتتداخل مع عوالم الباطن، ويذكّرنا ذلك بقصة سيّدنا عمر حين سأل رجلا: ما اسمك؟ فقال: جمْرة، فقال: ابن من؟ فقال: ابن شهاب، قال: ممن؟ قال: من الحرقة، قال: أين مسكنك؟ فقال: بحرّة النار، قال: "بأيها؟ قال: بذات لظى، فقال له عمر: "أدرك أهلك فقد احترقوا".. وبالفعل تحققت نبوءة الفاروق رضي اللّه عنه فاحترق أهله.

ويحيلنا كذلك إلى نظرية النظم للجرجاني وقضية اللفظ والمعنى وتقارب الدلالات اللغوية التي تأتي من وراء حدود اللغة، وتستقل بها أجراس الحروف متآلفة مع بعضها، ويكمل ذلك الإحساس المُنبعِث في نفسك من طبيعة الكلمة ووقع حروفها.
لقد عبّر الأسلاف الأوائل عن المواقف بحروفٍ تناسب المشاعر؛ فحينما استبطنت مشاعرهم التوجّع عبّروا عنه بصوت النون كما في كلمة (أنين)، وعندما اهتزت نبرات صوتهم في مواقف الفزع اهتدوا إلى صوت الهاء وعبروا عنه من خلال كلمات (رهبة، هلع، هزيمة) وكذلك استبطنوا مشاعرهم عندما تملّكت أصواتهم بحّة انفعال عاطفي فاهتدوا إلى صوت الحاء وعبّروا عنه بـ (الحب والحنين والحنان والحبور والفرح) وعبروا عن التماسك والالتصاق بحرف اللام فجاءت كلمات: (لبد، لبث، لحقه، لَحَم).
في تجلياتها الصادقة حول حرفي الراء والصاد باشتقاقاتهما الصدقيّة تنم أحاسيس اللواتيّة عن دواخل مُترعة بالجمال وملمسه الساحر، مشيرة إلى أنّ حرف الراء ترك أثرًا بليغًا على روحها؛ فهو يُذكّرها برائحة الريحان الذكي في قدرته على الجمع بين الإنعاش والحذر، وتنقب ذاكرتها لتستذكر أنّ كلمة: "شَفَتَيَّ" كانت تُشعرها بالحب عندما كنت تنشد وهي صغيرة:
نشيد النور في شفتيَّ
تعيش تعيش مدرستي
أمّا عن كلفها وعشقها لحرف الصاد فتحكي أنّها ذات مساء ما قرأت لوحة مكتوب عليها قول الإمام عليّ كرّم الله وجهه: "الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد".
وتذكر أنّها كانت تتردد على مكان اللوحة أسبوعين متتاليين: "لا شيء في الغرفة سوى هذه اللوحة الوحيدة، التي تبادلنا أنا و"صادها" الكثير من النجوى والسمر.. تتابعت الكلمات أمامي في توال عجيب، صبر، صمت، صوم، صلاح وصفاء وصدق وصرامة وصمود، كلّها جمعها الصاد في نسق أخلاقي فريد، كعقد تراتبت خرزاته يزين إحداها وجود الآخر!!".
وتضيف: "ما لفتني حقًا تلك التوأمة الجميلة بين الصمت والصوم كأنّهما وجهان لعملة واحدة، فنحن لا نصوم حقا حتى تصوم ألسنتنا! وكما الصيام عن الطعام فرض، فكف اللسان فرض، والمُدهش نذر العذراء بالصوم صمتًا، وآية زكريا عليه السلام الصامتة".
وتردف أنّ تلكم الأفكار حدت بها للتأمل في ماهيّة هذا الصمت المسيطر على معنى الصيام في كل كيفيّاته، لتنجلي الحكمة في أروع صورها؛ فحين يصمت اللسان يبدأ العقل في التفكير في أروع الحلول، وأجمل الأشكال، وأفضل الحديث.. إنّه استراحة المحارب الفطن، فصمت مريم عليها السلام آتاها هدوءًا أمكنها من مواجهة الموقف بصبر ورباطة جأش، وإن كانت مضطربة؛ فقد خفف الصمت من وطأة الحدث الجليل عليها في مواجهة القوم، واتّهامهم إيّاها بالفحشاء. وصمت زكريا أتاح له التأمل في الحمل المعجزة والنعمة الإلهيّة وبذل الوقت في الشكر على النعماء؛ (يَا زَكريَّا إِنَّا نُبَشّرك بِغُلام اسمه يَحيَى) فنعماء صمت كهذا يسمو وينجو بفعله صاحبه."

ويذكرنا قول اللواتية: "فليس مضاد الكلام السكوت، وإنّما مضاده الهذر والكلام في جدال عقيم، أو مع من لا يفهم مغزى جعل القدرة الكلاميّة في الإنسان؛ وهو حاصل بكثرة هذه الأيام مع تطور التقنية ووسائل الاتصال المختلفة" بما أورده الجاحظ
في مقدمة كتابه البيان والتبيين حول أنّ هناك عيبين يلحقان بالكلام هما السلاطة والهذر، والعي والحصر" ويقصد بالسلاطة والهذر: كثرة الكلام بلا فائدة، ويُقصد بالعي والعصر عجز الكلام عن أداء المعنى.
وترى اللواتيّة أنّ الهذر وخصوصًا في كلمات اللغو والأحاديث غير النافعة يسقط عن النفس الصفاء، والصلاح، وتتعجب من الحرف كونه "صادًا" صادقًا فيما يحث، وإلى ما يُشير!.

يحقق كتاب "رؤى في سطور" لسلمى اللواتية شرط متعة الرصد والتصوير، رُبما لتمكن الكاتبة مما يسمى مجازًيا "غريزة السرد" لذا جاءت موضوعات الكتاب متماسكة، قوامها السببية والإدهاش وحسن العرض.

mohamed102008@windowslive.com